لم تكن زلة لسان، كان محمود عباس يقصد بلفظة جواسيس كل أولئك الذين اعترضوا على نهجه، وخالفوا قراراته المرتجلة، وعارضوا سياساته في التقرب والتودد والتراحم مع الإسرائيليين.
جواسيس، لفظة تهدف إلى خلط المفاهيم، وتشويه الصورة النمطية للوطني المعادي للجاسوس، وهذه سياسة واعية لا تقف عند حدود اللفظة، وإنما تتعداها إلى مجمل المسار الإعلامي لقيادة السلطة، التي تعمد إلى التمويه والتشويه من خلال الربط بين ما يجري في رام الله من تعاون أمني، وما يجري في غزة من تهدئة، لتكون النتائج على الأرض هي نفسها هنا وهناك، والهدف من ذلك تعزيز بعض المفاهيم الهابطة التي يرددها البعض، مثل: كلهم جواسيس، وكلهم عملاء، وكلهم يفتش عن مصالحه، ويخون الوطن، وكلهم طلاب كراسي ومناصب، وكلهم فاسد وفاسق، وكلهم مرتشٍ، وكلهم ينسق مع الإسرائيليين، ويقبض المال منهم، أو عن طريقهم، وكلهم يعمل لخدمتهم، ويحفظ أمنهم، هذه اللغة التي يسعى رجال السلطة إلى تعميمها هي ملخص الحملة الإعلامية التي يرأسها محمود عباس، الذي قال قبل أيام: إن حركة حماس تتعاون أمنياً مع نتنياهو، الذي سلم حماس الفلوس شخصياً، وبدورها حماس وظفت هذه الأموال لشراء السلاح والمعدات، بهدف إثارة الفوضى في ربوع السلطة الفلسطينية.
هذا التصريح لا يوجه تهمة الخيانة لحركة حماس فقط، بل هذا التصريح الرسمي يشوه صورة المقاومة عن قصد، وقد جاء هذا التصريح أسبق زمنياً لتصريحه ضد حركة حماس والتيار الإصلاحي حين اتهمهما بالتجسس عشية انطلاقة حركة فتح، وكأن عباس شخصياً هو صاحب حق الامتياز في توزيع صكوك الوطنية، وتهمة التجسس، وعليه جاءت تصريحات ممثله حسين الشيخ أبعد مدى من ذلك حين قال: نحن من يواجه أوسلو وليست حركة حماس! نحن من نطالب بإعادة النظر بأوسلو! نحن من يقول: لا لأوسلو، ولا لصفقة القرن!
ملخص هذه الحملة الإعلامية تؤكد أننا في زمن صناعة الشعارات، وتسويق الأكاذيب، وتوجيه التهم إلى الجميع، بهدف خلط الحابل بالنابل، وتعويم المفاهيم، كي تتوه الحقيقة، ويعجز المواطن عن التفريق بين الصادق والكاذب، بين هذا وذاك، وبين الوطني والعميل.
أمام هذا الخلط المتعمد للمصطلحات، قد نكون بحاجة إلى ورشة عمل ثقافية، تلتقي فيها كل الكفاءات والتنظيمات الوطنية والمؤسسات لتناقش قانون القضاء الثوري الصادر عن منظمة التحرير سنة 1979، الذي يحدد من هو الخائن، ومن هو الجاسوس، ومن هو العميل، مع ضرورة ربط مواد قانون القضاء الثوري بالممارسات اليومية لقيادات الزمن الراهن.