السفر والتعرف على دول وثقافات مختلفة حلمٌ يراود الكثيرين، ومن المعلوم أن للسفر فوائد كثيرة، سواء كان للسياحة أو لأي سبب آخر، ولكن ماذا عن تفاصيل البلد التي يعيش فيها الراغبون بالسفر؟ هل فكّروا باستكشافها يوماً؟ أم أنهم يكتفون بالاعتقاد بأن بلدهم بلا تفاصيل مثيرة ولا تاريخ يستحق الالتفات إليه وقراءته عبر الأحجار المهترئة في الأماكن القديمة؟..
هناك من يؤمن بأن التعرف على بلده يجب أن يكون مرحلة أولى تسبق التفكير في السياحة في أماكن أخرى، وفي قطاع غزة من فعلوا ذلك، فخصصوا جزءا من طاقتهم وشغفهم للتعرف على تفاصيل القطاع.. "فلسطين" تسلط الضوء على تلك الفكرة.
للتعرف عليها
"براءة الغلاييني" فرضت عليها دراستها للصحافة والإعلام التجول كثيراً في القطاع، وكانت كثيراً ما تلتقط صوراً لمناطق تمر بها خلال جولاتها، وترى فيها جمالاً يستحق أن يُصور، واعتادت أن تنشر ما ترصده عدستها على موقع تبادل الصور "انستجرام"، ثم طوّرت فكرتها لتنشر المزيد من الصور عن القطاع في جولات تقوم بها برفقة ثلاث من صديقاتها.
تقول لـ"فلسطين": "كنت في البداية أصوّر أي أماكن أمرّ بها في حياتي اليومية أثناء توجهي إلى الجامعة أو خلال نزهة مع العائلة أو غير ذلك، كالبحر وأطفال يلعبون في الشارع وأشياء بسيطة أخرى، وكنت أنشر هذه الصور عبر موقع (انستجرام) لمناقشتها مع المتابعين"، مضيفة: "تطورت الفكرة وأصبحت أقصد بعض الأماكن بهدف التعرف عليها وتصويرها".
وتتابع: "اكتشفت أماكن كثيرة مجهولة، فالإعلام عادة ما يسلط الضوء على الفقر والبطالة والحصار، والأوضاع اليومية الصعبة تسيطر على الصورة التي تظهر للعالم عن غزة، أما باقي تفاصيلها فلا يهتم بها أحد".
وترى الغلاييني أن استكشاف الشخص لبلده والتجول فيها يجب أن يكون خطوةً سابقة للتفكير في السياحة الخارجية، خاصة الفلسطينيين، فتعرفهم على وطنهم واجب عليهم، لأن الدفاع عنه يستلزم معرفة تفاصيله المختلفة وليس مجرد الإقامة فيه، على حد قولها.
وتشير إلى أن السياحة الداخلية تتميز عن الخارجية بتكلفتها الأقل، وعدم وجود عوائق اللغة في التواصل.
بالبحث والسؤال
وعن الأماكن التي تزورها مع صديقاتها الثلاث، توضح الغلاييني: "نجمع المعلومات عن المكان الذي نتوجه إليه، وأحياناً نلتقي ببعض سكان المنطقة لنستمع لما يقولونه عنها، ومن ثم ننقل لمتابعينا على مواقع التواصل ما لدينا من صورٍ ومعلومات".
وتبين أن التعرف على الأماكن يكون من خلال السؤال والبحث واستشارة بعض المعارف، وكذلك يقترح البعض على الفتيات الأربع أماكن يزرنها.
وتوضح: "الفقر والحياة الصعبة موجودان في القطاع كله، حتى في أرقى أحيائه، والإعلام لا يمل من إظهار هذه الصورة، فلا داعي لأن نبرزها من جديد، لذا فإنني وصديقاتي نحاول التركيز على أشياءٍ أخرى مثل الأماكن غير المعروفة، واختلاف اللهجات والعادات من منطقة لأخرى، وهذا جزء من التاريخ والتراث".
"غزة صغيرة وليس فيها جديد للتصوير".. هذا ما يُقال للمصورات أحياناً، ولكن إجابتهن دوماً: "هناك مناطق لا يعرفها البعض بالفعل، بالإضافة إلى أننا نصور أماكن معروفة أحياناً؛ ولكن بطريقةٍ جديدة".
وتلفت الغلاييني إلى أن عددا كبيرا من الشباب والشابات طلبوا منها ومن صديقاتها الانضمام لهن في رحلاتهن، ولكن هذا لا يتناسب معهن، موجهةً النصح لكل من يرغب بذلك: "كوّنوا فرقاً بأنفسكم، وانطلقوا للاستكشاف، وقد يكون بحثكم امتدادا لما نفعله، أو ابحثوا عن أفكار جديدة، فليس شرطاً أن يكون استكشافكم للقطاع بنفس طريقتنا، بل قد تأتون بأفكارٍ أفضل".
وإلى جانب ما تجده الفتيات الأربع من اهتمام بفكرتهن، فهن يواجَهن بالاعتراض أيضاً، فالبعض يرفض عملهن لا لشيء سوى أنهن إناث.
تفاعلهم مسؤولية
نشاطٌ مشابه تقوم به الشابة خلود نصار، ولكنها تركز على المناطق القديمة، تقول لـ"فلسطين": "لأن التصوير هواية، ولأن المصور يلفت انتباهه ما لا يلفت غيره، فأي شيء يلفت انتباهي، وأي منطقةٍ قديمة تجذبني لأصورها، وأستغرب ردة فعل الناس المستغربين مما أفعله".
وتضيف: "قبل أربع سنوات، بدأتُ بالتقاط الصور ونشرها على (انستجرام)، وكانت ردود فعل الفلسطينيين المقيمين بالخارج تدل على تعطشهم لأن يروا غزة بشكل جديد يخلو من المشاهد المعتادة للحروب والدمار والفقر، وهذا التفاعل جعلني أشعر بالمسؤولية ليرى الناس القطاع بعدستي".
وتتابع: "لم أحاول أن أرسم صورة معينة لغزة قائمةً على إبراز الجمال أو التركيز على الألم، وإنما أردت أن أنقل شيئاً حقيقياً عنها، وأن أحمّل صوري برسالة مفادها أن القطاع الصغير المعروف بالحروب له تاريخ وفيه شيءٌ من الجمال".
و كي تجمع بين التاريخ والجمال، اتجهت نصّار إلى الأماكن القديمة، مثل سوقي الزاوية والذهب، وقصر الباشا، والمسجد العمري والمنطقة المحيطة به، ودكاكين العطارة، والبيوت القديمة، وحتى الأبواب والنوافذ القديمة.
وتوضح: "أبحث كثيراً عن الأماكن التي أتوجه لاستكشافها، وذلك باستخدام دليل الأماكن الأثرية الصادر عن البلدية، وبالرجوع إلى مراكز ثقافية، ومن خلال خريطة أثرية أملكها، وكذلك عبر الإنترنت، وقبل زيارة المكان أتعرف على المعلومات المتعلقة به وبتاريخه"، مبينةً: "استغربتُ كثيرا من منطقة البلدة القديمة، وصدمني عدد الأماكن الموجودة في نفس المربع، مثل حمام السمرة والبيوت القديمة وقصر الباشا وغيرها".
أكثر تعلّقًا
وتؤكد نصّار أن تعلّقها بغزة زاد بعد الجولات الاستكشافية التي قامت بها، إذ أصبحت متعلقة بكل تفاصيلها وأماكنها، وامتلكت القدرة للحديث عنها بوعي أكبر، مشيرة إلى أن البعض يتصل بها ليطلب منها ترشيح أماكن ليزورها.
وتقول إن القطاع منطقة "مظلومة"، فهو ليس مكاناً صغيراً تتكرر الحياة فيه بملل، بل فيه تفاصيل تستدعي منها الوقوف أمامها لتأملها، مضيفة: "أحياناً يستوقفني شيء ما أثناء سيري، فأتوقف للتأمل فيه، لأرى كل تفاصيله، ومن ثم أصوره لأنقله للآخرين، وهذا يثير استغراب الناس أحياناً".
وتبين: "ليس المطلوب إظهار غزة على أنها جنة وتجاهل معاناتها، وكذلك لا نريد التركيز على الألم الموجود فيها ونسيان مواطن جمالها، وإنما علينا أن ننقل صورة موضوعية، خاصة أن الأمر ليس مجرد مجموعة من الصور، بل يحمل في طيّاته تاريخًا ومعلومات".
وتشير إلى أن البعض يستغرب وجود الأماكن التي تتحدث عنها في القطاع، وهناك من لا يتخلون عن النظرة السوداوية التي يحملونها لغزة، ويؤكدون لها أن "غزة جميلة بعدستك فقط، ولكنها ليست كذلك على أرض الواقع".
وفي المقابل، هناك من يتفاعلون معها، ويطلبون منها تنظيم رحلات لهم لتعريفهم على القطاع، وقد فكرت بفعل ذلك ضمن مشروعٍ خاص بها، ولكنها لم تتمكن من تنفيذ الفكرة بمفردها، ولم تجد مؤسسة تساعدها في تنظيم الرحلات.