ما من سياسة إلا ولها أولوية، حتى لو لم تعلن ذلك أو تحدده بدقة، لأن السياسة، أو الإستراتيجية، بلا أولوية محددة تحديدًا دقيقًا وصحيحًا، تخرج موزعة الجهود، مرتبكة، أسيرة أولوية بعيدة عن الأولوية الصحيحة. فالسياسة والإستراتيجية المفتقرتان للأولوية المحددة تحديدًا دقيقًا وصحيحًا تراهما عند الذين يحددون عدة أولويات في آن واحد، هروبًا من تحديد الأولوية الصحيحة.
في مفهوم النضال
فعلى سبيل المثال يخطئ الذين يدعون تبنيهم "كل أشكال النضال"، وهذا يعني أنهم يؤيدون النضال الاجتماعي السلمي، ويمارسون المقاومة المسلحة، أو يؤيدون الانتفاضة الشعبية، ويؤيدون المفاوضات مع العدو الصهيوني (ويعدونها شكلًا من أشكال النضال)، ولكن هذا النهج لا يمكن تطبيقه في آن واحد، ومن جانب الطرف المعني، لأنه لا مفر لمن يقولون باستخدام كل أشكال النضال أن يستخدموا في الحقيقة شكلًا محددًا يعطونه الأولوية، وهؤلاء في الغالب هم الذين لا يقتربون من شكل المقاومة المسلحة، أو الانتفاضة الشعبية التي تذهب إلى المواجهة والقطيعة الفعليين مع العدو.
مع طرح المشروع المرحلي في 1973م و1974م ووجه بتهمة التخلي عن هدف التحرير الكامل، وقد انتهى بعد مساومات مع الفصائل إلى ما تضمنته النقاط العشر، ومن يدقق فيها يجدها جملة تحفظات وتحوّطات ضد التخلي عن التحرير الكامل والعودة، وضد القرار (242) ومسار التسوية، وما شئت من ضد.
عن السلطة وأولوية "فتح"
كان هدف إقامة سلطة وطنية من النقاط العشر هو الهدف الرئيس أو الأولوية لقيادة فتح، أما سواه من "أولويات" تضمنتها النقاط العشر فلم تكن لقيادة فتح مهمة، ومنها إلحاق السلطة بعبارة المقاتلة (يعني بمجرد أن تطأ قدماها الأرض تواصل القتال، لا التحضير للقتال).
هنا مثل صارخ على سياسة وإستراتيجية تطرح مجموعة أولويات لتخبئ أولوية حقيقية هي المقصودة، وهي التي يُراد أن تقود الممارسة والسياسة اللاحقة لتأكيدها.
الإشكال نفسه عاد عام 1988م، وتبلور ليصبح أشد خطرًا مع طرح "إقامة الدولة الفلسطينية" على أراضي الرابع من حزيران (يونيو) 1967م.
أمام هذه الانتقالة الأكثر تحديدًا للأولوية هدفًا ونضالًا للمرحلة الراهنة وقع في الخطأ المستمر حتى اليوم، وهو الخطأ الفادح في عدم تحديد الأولوية الصحيحة والأكثر واقعية، أي الأكثر إمكانًا للتحقيق، وهي أولوية دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات من المناطق الفلسطينية المحتلة في حزيران (يونيو) 1967م، لأن إعطاء الأولوية إقامة دولة فلسطينية هنا كان بمنزلة وضع العربة أمام الحصان، أي إعطاءها الأولوية على أولوية تحرير الأرض المحتلة في الخامس من حزيران (يونيو) 1967م.
تحرير الأرض أولًا
لاشك كان الجواب أن تحرير الأرض له أولوية أيضًا، ومن لا يلاحظ أن عدّ الأمرين أولوية على قدم المساواة غير ممكن؟!؛ فهنا لابد من أن تكون الأولوية لأحدهما، وعلى التحديد أن تكون الأولوية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات (تحرير الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة)، وبعيدًا عن إدخال موضوع الدولة، إذ بعد التحرير لكل حادث حديث، يمكن أن نختلف وننقسم ونتصارع: هل نقيم دولة فلسطينية أم يُقام وضع آخر يُهيّئ للتحرير الكامل أو وضع لا يناقض ولا يعوّق التحرير الكامل والعودة الكاملة؟
لاحظوا الفارق الكبير بين الأولويتين ووضعهما على قدم المساواة، وجعل الأولوية لتحرير الأرض بلا قيد أو شرط.
إعطاء الأولوية إقامة الدولة فرض أن تركز الديبلوماسية الفلسطينية على نيل الاعتراف بالدولة، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وهنا تبدأ المساومات، بداية من الدول الكبرى، ثم الانتقال إلى المفاوضات الثنائية لحل يقوم على أساس حل الدولتين، وهذا لم يعد افتراضًا، أو خلافًا، وإنما هذا ما أثبته الواقع باللسان الفصيح، وحمل في طياته حماية الاحتلال من أي مقاومة وانتفاضة، وصولًا إلى التنسيق الأمني، وسمح في طياته بالمضي في الاستيطان طولًا وعرضًا، وبهذا بقيت الأرض تحت الاحتلال وتحت الاستيطان.
أما عندما يكون الهدف أو الأولوية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط، وضمن إستراتيجية مقاومة وانتفاضة، أو الأدق ضمن إستراتيجية انتفاضة شعبية لها الأولوية، ويخضع لها ولخدمتها ما تيسر من مقاومة مسلحة وأشكال نضال، وهنا يسقط بيد العدو، وبيد حلفائه، كما بيد حلفاء (م.ت.ف) والشعب الفلسطيني من دول، لأن كلًّا معترف بعدم شرعية الاحتلال، وكل معترف بعدم شرعية الاستيطان (ولاحقًا عدّه جريمة حرب)؛ فلا يجوز المساومة عليهما، ويجب على العدو أن يتراجع إلى خطوط الهدنة، بلا قيد أو شرط، إذ لا يجوز أن يُكافأ على ما اقترف من احتلال وأقام من مستوطنات، هذا ما يُقرره القانون الدولي أولًا، وميثاق هيئة الأمم ثانيًا، وعدد من القرارات الدولية فيما يتعلق بالاحتلال والاستيطان.
حل الدولتين كارثة
بل أثبتت التجربة أن حل الدولتين الذي أُعطي الأولوية في سياسة محمود عباس، ومن يقترب منها بهذا القدر أو ذاك، أو لا يتخذ موقفًا حاسمًا ضد هذه الأولوية، أو يعد الانقسام عليها (سياسة حل الدولتين) كارثة فلسطينية أو أم الكوارث؛ أثبتت التجربة أنها أولوية غير واقعية، مع ما تحمله أساسًا من تفريط بالثوابت والحقوق الأساسية الفلسطينية.
يتبين من كل ذلك أن تحديد الأولوية تحديدًا صحيحًا ودقيقًا مسألة حاسمة اليوم أيضًا في خوض الصراع الناجز، وعلى التحديد هنا إعطاء الأولوية لدحر الاحتلال، وتفكيك المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، بتبني إستراتيجية الانتفاضة الشعبية (قطاع غزة تخلص من الاحتلال والاستيطان وأصبحت مشكلته فك الحصار، إلى جانب الأولوية نفسها الخاصة بالقدس والضفة، وعنده إمكان بناء قاعدة مقاومة مسلحة جبارة، وإطلاق مسيرات كبرى).
ومن هنا ينتقل أي هدف آخر يتعلق بوحدة الموقف الفلسطيني أو المصالحة ليصبح خاضعًا للأولوية المذكورة، ويكون في خدمتها، ومن هنا نلمس خطأ ما ركزت عليه مفاوضات المصالحة، وما أبرم على طريقها من اتفاقات مثل إجراء الانتخابات، أو ترتيبات انتقال سلطة رام الله إلى قطاع غزة، وذلك بدلًا من أن تقوم المصالحة على أساس وحدة وطنية في مواجهة الاحتلال والاستيطان، بتبني إستراتيجية الانتفاضة الشعبية السلمية الشاملة، وما يتخللها من مقاومة شبابية ومبادرات، وهذا يمكن أن يتحقق، إذا ما كانت الأولوية لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات.
إذا أُعطيت الأولوية مقاومة الاحتلال والاستيطان أصبحت المصالحة ممكنة، أما إذا كانت هي الأولوية، أي أصبح حل القضايا والوقائع التي أدت إلى الانقسام هو شرطها؛ فخذ فشلًا طويلًا دام حتى الآن اثنتي عشرة سنة، والحبل على الجرار.