فلسطين أون لاين

​أم بشرى تريد العودة لـ"الجورة"

...
صورة أرشيفية
غزة/ جواهر حجو:

دقات متتالية على الباب بصوت عالٍ، فالعمر أخذ مأخذه من الحاجة أم بشرى، لذا فالصوت العالي ضروري لتسمع، وأخيرًا فتحت الباب لترى في عينيها حكايات أعوام من النكبة، وخريطة الوطن الضائع ارتسمت بين خطوط تجاعيد وجهها.

"فلسطين" حاورت الحاجة الثمانينية أم بشرى، والمهجرة من قرية الجورة -قرية صغيرة فلسطينية تقع على الساحل الفلسطيني، احتلها اليهود بتاريخ 5/11/1948 ضمن الأراضي الفلسطينية التي استولوا عليها-.

تقول أم بشرى: "لن أستطيع نسيان المشهد الذي عصر قلبي حزنًا على الجثث المتكدسة فوق بعضها، ومشهد المجازر والفظائع وأعمال النهب التي ارتكبها العدو بحق الفلسطينيين وهدم القرى والمدن وتحويلها إلى مدن إسرائيلية".

كانت جالسة بين ذكريات النكبة لأنها أخذت معها كل شيء، حتى ملابسها وصيغة الذهب التي تركها زوجها بعدما رحل عنها وجعلها وحيدة في هجرة النكبة، وتخيل أن بيتها الذي تسكنه الآن شبيه ببيتها في الجورة، كما وصفته.

ما تزال أم بشرى تحن للعودة إلى ديارها، فهي تقول: "لا تمر ليلة دون أن أحلم أني في الجورة وفي أرضي، وفجأة أستيقظ على صوت الفدعوس الذي يزعجني جدًّا"، مشيرة إلى أنه شتان بين فدعوس اليوم والأفراح القديمة التي كانت تتزين بالتراث.

وتتذكر أحداث النكبة، فتشير إلى أن الجيش المصري في عام 1948 وقف بجانب الفلسطينيين وقدم لهم المساعدة، والاحتلال الإسرائيلي كان يقصف الناس بالبراميل المتفجرة، وما زالت تذكر أول عائلة توفيت بسبب هذه البراميل المتفجرة، وهي عائلة الهباش، وبعدها قصف لكروم العنب، مضيفة: "كانت هناك سيدة تمشي في الطريق وقت القصف، فطلبت منها أن تدخل إلى منزلنا حتى لا تموت، لكنها رفضت وذهبت للبحث عن أولادها، وفجأة استشهدت، ورأيت رأسها تحت العجل.. موقف لا يمكنني نسيانه أبدًا".

كثير من أهل قرية الجورة استشهدوا في ذلك اليوم الذي تذكر الحاجة أم بشرى تفاصيله، وانتشر الرعب بين الأهالي بسبب الجريمة الصهيونية البشعة، خاصةً مع كل طلعة جوية للطائرات الحربية، ما دفع الأهالي لترك القرية حاملين بأيديهم بعض مقتنياتهم كالذهب مثلًا، وحلم العودة!

تقول: "بعد القصف هربنا، وأغلقت باب بيتي بالمفتاح، وأخذت المفتاح معي، لأني كنت متأكدة آنذاك أنني سأعود إلى أرضي، وداري، وأغراضي، لكن يا حسرة ما رجعنا لليوم، بس إن شاء الله أحفادنا راح يرجعوا".

وتستطرد: "هاجرنا من قريتنا حتى وصلنا لغزة، وما زال القصف مستمرًا بالصواريخ والقنابل، وبعدما استسلمنا للموت سمعنا خبر الهدنة التي نسقت لها الأمم المتحدة".

أم بشرى ما تزال تحلم بالعودة إلى الجورة؛ لأنها تشتاق إلى كل ركن فيها، وإلى أيام البساطة التي تجتمع فيها قلوب أهالي القرية على المحبة والود في السراء والضراء، فمثلًا إذا توفي أحد الجيران لا يفتح أهل المنطقة أي أغاني لمدة أربعين يومًا حدادًا على روحه.

أخيرًا.. هجرة 1948 خطط الاحتلال لها، لينتهي الحال بهذه اللاجئة خارج أرضها، كما غيرها من آلاف الفلسطينيين الذين سكنوا خيام الأونروا وعطفت عليهم بقليل مساعداتها الغذائية التي لا تسمن ولا تغني من الجوع.

هذه الحاجة حالفها الحظ لينتهي بها المطاف في جزء من أرض الوطن، وإن لم يكن أرضها وبلادها الأصلية، لكن حالها أفضل ممن انتهى بهم الحال قسرًا في دول اللجوء في أوضاع إنسانية يندى لها الجبين.