فلسطين أون لاين

​"انفروا خفافًا وثقالاً".. "ترهبون به عدو الله وعدوّكم"

...
صورة أرشيفية
غزة/ أسماء صرصور:

الشريعة الإسلامية بفلسفتها دعت إلى التحشيد للحق، وضرورة التجمع حوله، ودعت إلى إظهاره، ونصرته، والدعوة إليه، والالتفاف حول مبادئه ومعالمه بل مقدساته، وحثت النصوص القرآنية على ذلك؛ في قوله تعالى: "انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ".

يأتي ذلك كله في إطار قوله تعالى: ""وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، فحرب الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي لا تقتصر فقط على مواجهة الرصاص والبندقية والصواريخ.

فهناك حرب من نوع آخر.. الحرب النفسية، والتي يعد من أحد وسائلها تحشيد الجمهور الفلسطيني عاملاً مساعدًا وقويًا جدًا، ويقدم رسائل عديدة تغيظ الأعداء ومن والاهم، واهتمت بها الشريعة الإسلامية أيما اهتمام، "فلسطين" تتحدث عن هذه الرسائل بمحاورة أستاذ الشريعة الإسلامية د. صادق قنديل، والتفاصيل تتبع:

إظهار قوة الحق

يقول د. قنديل: "لو استعرضنا نصوص القرآن والسنة وتاريخ السلف والخلف ندرك تمامًا أن الإسلام اعتمد كل وسيلة تظهر الحق"، مشيرًا إلى أن من هذه الوسائل ما يعرف بالتجمعات الشعبية أو المهرجانات النضالية والجهادية.

ومن هذه الشواهد الكثيرة –كما يذكر- ما قاله الله سبحانه: ""انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا"، وجاء في تفسير هذه الآية الكثير من الكلام؛ مفاده: انفروا خفافًا وثقالًا، أي: أخرجوا شيبًا وشبابًا فقراء وأغنياء أقوياء وضعفاء، متابعًا: "ولا شك أن في الجهاد وفي كل وسيلة تظهر الحق وتعلي من شأنه كالتجمعات في الساحات العامة والميادين".

ويشدد على أن الإسلام مع كل وسيلة تحقق الهدف ولا تلغي أصله في القرآن والسنة، منبهًا إلى أن الوسائل المعبرة عن الحق والجهاد تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ويكمل أستاذ الشريعة الإسلامية: "ولغة العصر في زماننا تعد الحشود والتجمعات الشعبية والنضالية أسلوبًا من أساليب المقاومة والقتال"، مبينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى تجمعات الكفار ويعرض نفسه على القبائل ليوصل دعوته ويقيم عليهم حجته، وما فعل ذلك رسول الله إلا لعلمه أن هذا في الدعوة أبلغ وفي مخاطبة الكفار أقوى.

ويوضح أنه لا شك أن تجمع أهل الحق في مكان عام ليظهروا قوتهم ووحدتهم وتجمعهم لا يقل في التأثير وبث الرعب في قلوب الصهاينة ومن ناصرهم عن وسيلة جهادية أخرى، ذاكرًا ما حدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في فلسفة الطواف في الحج.

وعن ذلك يقول: "النبي حرص أن يظهر الحجاج من الصحابة أقوياء، فشرّع الترمل أي الإسراع في الخطى، حيث إن المشركين قالوا قبل دخول النبي وأصحابه مكة في العمرة؛ إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وَهَنَتْهُم الْحُمَّى، ولقوا منها شدّة فأمر النبي أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جَلَدَهم فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا".

ومن هذا يرسل النبي –كما يؤكد- رسائل قوية بغية أن يفهم الكفار من لغة الجسد أن الصحابة أقوياء الفكرة والعقيدة والجسد، وفي الرواية نفسها أنهم تجمعوا عند الحجر وأشار عليهم النبي بذلك، وهكذا في كل شعائر الحج فإن كان هذا في شعائر الإسلام التعبدية فكيف بشعيرة الإسلام الوقائية والدفاعية الجهاد في سبيله والتحشيد للحق وفكرته.

ويتابع د. قنديل: "وهكذا لو استعرضنا كل النصوص ومشاهد التاريخ ندرك حقيقة الموقف الإسلامي من هذه التجمعات؛ أنها من الواجب علينا القيام بها والحرص على حماية الحق وإظهاره"، "ويمكن لنا أن نستلهم من قول الرسول في مشية أبي دجانة يوم أن مشى مستعرضًا بين صفوف المقاتلين: "والله إنها مشية لا يحبها الله إلا في هذا الموطن"، لأنها مشية عز وإباء رجولة واقتدار بطولة وانتصار فلا أقل من أن تكون هذه التجمعات والحشود هي لإظهار عزة أهل الحق وفلسطين بدينهم ووطنهم وتراب قدسهم مسرى نبيهم"، كما يقول.

رسائل متعددة

ويلفت إلى أن هذه الحشود والتجمعات تشكل على صعيد الجبهة الداخلية درعًا واقيًا للمجتمع من كل رسائل الخوف والقلق التي يرسلها العدو في كل يوم، وعندما يرى الناس في المجتمع أن أهل المقاومة وأنصارهم يلتف حولهم كل الشعب؛ فهذا يعطي قوة للمقاوم أن يثبت على عهده ووعده ومبدأه مع الشعب، وللشعب أن يبقى قويًا متمسكًا بمصدر عزته وفخره، وأن يلاحق كل من يريد النيل منهم.

ويشدد أن الشعب والجبهة الداخلية للمجتمع من البنيان المرصوص الذي لا يكتمل جهاد المجاهد إلا به، كما قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ"، ولا شك أن المجتمع إن ظهر كالبنيان المرصوص خلف المقاومة فهذا يسهل على المجاهد مهمته ويقوي ظهره ويحمي إنجازاته.

وينبه أستاذ الشريعة الإسلامية إلى أن هذه التجمعات تظهر للشعب أن مقاومته بخير وأن ما يبثه المحتل من إشاعات لا أثر ولا تأثير لها على عزيمة الناس مما يزيد من الالتفاف حول الثوابت الفلسطينية وأن الاحتلال إلى زوال بإذن الله.

وأما فيما تشكله مثل هذه التجمعات ضد العدو والاحتلال، فيوضح أنه يرسل برسائل يفهمها العدو بلغة العصر، فيبث الخوف والذعر في نفوس جمهوره، وقيادات جيشه، ثم يصيبهم بالإحباط أن كل المليارات التي تنفق وبكل الوسائل للنيل من شرعية المقاومة وأهلهم وشعبهم من التشويه والتحريض ذهبت أدراج الرياح؛ فها هي حشود المؤيدين للمقاومة تظهر أن كل الشعب معهم وخلفهم فلا سبيل للنيل منهم.

ويؤكد أن هذه التجمعات تثبت للاحتلال أن حاضنات المقاومة الشعبية والوطنية والفكرية والثقافية والسياسية كلها حاضرة وقوية، بالتفاف المفكرين والمثقفين والأكاديميين والعلماء والنخب السياسية والفكرية كلها حاضرة وملهمة لأيقونة النضال للشعب الفلسطيني.

وفيما تثبته هذه الحشود أمام من يقف ضد القضية الفلسطينية ويساند الاحتلال، يعلق د. قنديل بقوله: "إذا بثت هذه الحشود الرعب في قلوب الصهاينة ودرسوا مقدار وقيمة الأعداد وجعلوا لها مراكز دراسات ترصد تنامي قوة المقاومة العملية والشعبية، فهذا لا شك يجعل كل من يساند العدو من العرب يشعر بالخيبة والحسرة ويرجع على نفسه بالخزي والعار ويعيش قلقًا على حياته".

ويشير إلى أن هذا من عقوبة الله العاجلة له في الدنيا؛ مصداقا لقوله: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ"، والعقوبة بالخزي تلحق الكفار ومن عاونهم ووقف معهم ولو بكلمة واحدة، كالذين أيدوا قرارات المحتل وأمريكا لاتهام مقاومة الشعب الفلسطيني بالإرهاب، فهم كأبي رغال الذي دل أبرهة الأشرم على طريق الكعبة فقبره يرجم إلى يومنا هذا ويذكر في لعنات التاريخ.

وينبه أستاذ الشريعة الإسلامية إلى أنها تضع المجتمع الدولي أمام مسئوليته، وتحرج كل الدول التي تساند المحتل في إجرامه، وترسل هذه الحشود رسالة الإجماع الشعبي على حقوق الشعب الفلسطيني، وأن ضمائر المجتمع الدولي لابد وأن تكون مع عدالة القضية الفلسطينية وليس مع آلة البطش الصهيونية الإجرامية التي تقتل وتعتقل الأطفال والنساء.

المشاركة نصرة للحق

ويبيّن أن استثمار هذه التجمعات والحشود والمهرجانات الشعبية يكون بمتابعتها بعد الانفضاض، ولا يقتصر الأمر على الاستعراض، بل يجب عمل دراسات مركزة ومعمقة لكل الفئات التي شاركت في هذا الحشود؛ لإبراز أنها جامعة للكل الفلسطيني ثم لكل شرائح المجتمع وإبراز ذلك بالأرقام والنسب والإحصائيات لنجسد هذه الحشود إلى رسائل يفهمها العدو بلغة العصر القائمة على هذا.

ويؤكد أن الحشود اليوم هي لغة التأييد في واقعنا، حتى في الانقلابات إن كانت مدعومة بتأييد شعبي فلها القبول الدولي، وهكذا العدو فإنه يصاب بانتكاسة نفسية وعقدة انفصام عندما يصل إلى حقيقة مرة له ومشرفة لنا أن كل إنفاقه الطائل من الأموال على كل برامج التضليل وأنشطة التزييف وحملات التحريض والتشويه للحق الفلسطيني وممارساته في القدس وغيرها ذهبت أدراج الرياح ولم تفت من عضد الناس بالتمسك بمقاومتهم.

وأما عن الحكم الشرعي للمشاركة في مثل هذه التجمعات، فيلفت د. قنديل إلى أن هذه الحشود ما اجتمعت إلا على الحق الفلسطيني، وهو حق مقدس في الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك العلماء بأن أرض فلسطين وقف إسلامي، وطالما أنها اجتمعت على الحق الفلسطيني وهو من صلب العقيدة فلا شك أنه يجب على كل مسلم فلسطيني أن يشارك في نصرة حقه الذي سلبه المحتل الغاصب وادعى ظلمًا وزورًا أنه صاحب الأرض، وهذه الحشود من النفير العام الذي بها تحشيد الهمم والجماهير حول المقاومة والمطالبة بحقهم الذين كفلتهم الشرائع السماوية والقرارات الدولية.

أخيرًا مثل هذه التجمعات تكلف مقدارًا من المال، يرى المواطنون أن هذا المال لو صرف في مصارف أخرى لكان أفضل، يعلق على ذلك بقوله: "ليس مقبولاً فهم المسألة بهذه الطريقة، أولًا يجب على كل المسؤولين بذل قصارى جهدهم لتوفير الأموال التي تلزم كل فرد من أفراد الشعب الفلسطيني".

ويتابع أستاذ الشريعة الإسلامية: "ولا شك أن تأمين الأرزاق وحل المشاكل المجتمعية يزيد من قوة الجبهة الداخلية"، مستدركًا بقوله: "ولكن ليس من الإنصاف تعطيل كل الوسائل التي تغيظ الأعداء، ومنها هذه الحشود، فكما أن حماية المجتمع من الفقر مطلوبة للتخفيف من حدته وآثاره أيضًا مقاومة المحتل الذي يفرض الحصار ويجوع الناس مطلوبة".