لا يزال أبطال الضفة الفلسطينية المحتلة يسطّرون بشجاعتهم أسمى معاني التضحية ومقاومة الاحتلال، فلم يسلموا لكل الإجراءات الأمنية الإسرائيلية المشددة، ولم يذعنوا لخطابات الرئاسة الفلسطينية المجرمة للمقاومة المسلحة ولا لقمعها، ولم تردعهم القوة المفرطة في محاربتهم من قبل الاحتلال والسلطة التي تتهافت لحماية مغتصبيه وتسارع لإحباط العمليات الفدائية ضد الاحتلال مجاهرة بذلك عبر الإعلام دون حياء.
لكن وبكل جرأة يستقل بطل عملية "عوفرا" سيارته وينطلق صوب جموع المغتصبين، الذين يتراقصون ويقيمون الاحتفالات ابتهاجا بما يسمى عيد "الهانوكاه" -والذي يعدّونه أقدس أعيادهم- ويتبادلون كاسات الخمر، ليسقيهم بطلنا من فوهة رشاشه كأس الجحيم قائلًا: "لا أعياد ولا أمن ولا بقاء للاحتلال على أرضنا". تأتي هذه العملية البطولية بالتزامن مع ذكريات مشرفة ناصعة في تاريخ شعبنا الفلسطيني، ذكرى انتفاضة الحجارة وذكرى انطلاقة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الـ31، لتذكر الاحتلال بانطلاق آلامه واضعة أمام عينيه طريق رحيله وهلاكه وكنسه عن أرضنا، رغم ترساناته ودباباته وأسباب قوته.
تعود مشاهد بطولات العياش وعقل والهنود مجددا مع ظهور البطل الشهيد أحمد جرار والبطل المطارد أشرف نعالوة والذي أصبح أيقونة من أيقونات المقاومة والمطاردين، بعد أن دوخ جيشا بأكمله وأرهق كاهله واستنزف قواته وميزانياته، من خلال عمليات البحث المكثفة المتواصلة بالتشارك مع كل أجهزة استخبارات الاحتلال وقواته وعملائه، والتي باءت جميعها بالفشل وما زالت بفضل الله، الأمر الذي دفع الاحتلال إلى الإعلان عن مكافآت لمن يأتي بمعلومات عن البطل الأسطورة أشرف نعالوة وإخوانه.
سببت عملية "عوفرا" تشتيتا لجيش الاحتلال واستنفارا كبيرا في بكل أركانه بحثا عن منفذ العملية الذي انسحب عائدا إلى قواعده بسلام، هذا النهج الذي صار مهارة لدى أبطال شعبنا العباقرة، بات يرغم الاحتلال على دفع ثمن لا يطيقه ويجعله يفكر مليًا في سياساته العنصرية الهمجية الظالمة المتزايدة بوتيرة عالية على كل الأصعدة سواء (العسكرية، الاستيطانية، التهويدية، العنصرية، السياسية) ويجبره على استحضار الخطر المحدق بكيانه الزائل بإذن الله مع كل عملية.
استمرار اختفاء منفذي عملية عوفرا وغيرها وعجز الاحتلال عن أسرهم أو الوصول إليهم حتى هذه اللحظة، يؤكد بأن الضفة المحتلة تحوي مقاومين عباقرة أولي بأس قادرين على ضرب الاحتلال ومرمطته وتمريغ أنفه بالتراب وهو يبحث عن أثرهم، وأن أسطورة الجيش الذي لا يقهر باتت طرفة لأطفال فلسطين، وبالتالي ليس من المستحيل تنفيذ عمليات بطولية مدروسة ومخطط لها جيدا، ثم الانسحاب والاختفاء، ثم العدة بعد حين لتنفيذ المزيد من العمليات البطولية، بعد أخذ الاحتياطات والإعداد الجيد، وبالتالي استنزاف الاحتلال وإلحاق الأذى به.
بات المشروع الصهيوني الوجودي مهددا بالفعل إزاء ما يتعرض له كيان الاحتلال من عمليات فدائية نوعية إضافة إلى المظاهرات والمناوشات وكل أشكال مقاومة الاحتلال السلمية وغير السلمية، الرافضة لبقاء الاحتلال أو حتى وجوده، حيث إن من حصيلة عمليات أبطال المقاومة في الضفة المحتلة، مقتل 11 صهيونيا مغتصبا وجرح أكثر من 80 آخرون، ناهيك بـ600 عملية فدائية استطاع الاحتلال إحباطها، ما يعبر عن حالة الغليان في الشارع الفلسطيني على المستوى الشعبي المنظم وغير المنظم، وهو الأمر الناتج عن تطور وتنامي الوعي لدى شعبنا الفلسطيني، الذي راهن الاحتلال على طمسه ولا يزال يسعى مستعينا بمختلف الأدوات والوسائل غير المشروعة لا قانونيا ولا دوليا ولا إنسانيا، فخلال 24 ساعة نفذ أبطال الضفة 4 عمليات وانسحابهم واختفائهم دون أن تعرف هويتهم.
إن من أخطر ما يتعرض له أي احتلال في العالم، هو عمليات الاستنزاف -الممنهج خصوصا- على كلة الأصعدة (العسكرية، الأمنية، الاقتصادية، البنى التحتية، السياسية) لأن تكلفة احتلاله للأرض بهذه الطريقة تفوق مصلحته من الاحتلال؛ الأمر الذي يعدّ من مهددات بقائه، ويؤدي إلى سرعة تفكيكه وإنهاء احتلاله وهنا تكمن أهمية عمليات الاستنزاف.
وتشكل العمليات الفدائية البطولية هاجس رعب لدى المجتمع الصهيوني، مما يؤدي إلى خلق حالة من عدم الاستقرار وتفضيل الهجرة إلى دول أكثر أمنا في أوروبا، بالإضافة إلى ضعف الاستثمار والسياحة، ما يلقي بظلاله على الاقتصاد الصهيوني ويؤثر عليه سلبا، فتزداد أعباء حكومة الاحتلال الإسرائيلي -المدعومة دوليا وعربيا- وبالتالي إضعافها وإشغالها في نفسها والإنفاق على الترميم بدلا من التوسع وإقامة المزيد من المشاريع الاستيطانية المتزايدة والتهويدية المتسارعة والعنصرية المقيتة، حيث إن القدس المحتلة باتت تشهد عمليات تهويد علنية من خلال صفقات شراء عقارات وأراضي وممتلكات القدس للمستوطنين المغتصبين.
مجددا ترفع الضفة الفلسطينية المحتلة رؤوسنا عاليا وهي تأخذ دورها في الكفاح المسلح والنضال المجيد في مقاومة الاحتلال، وتصدح مدوية بكلمة "لا" للذل "كفى" هوان ونعم للسلاح والمقاومة والكفاح، معلنة أنها فوق كل محاولات التركيع والتدجين الذي يمارسه الاحتلال والسلطة من خلال القمع والاغتيالات والاقتحامات والاعتقالات..، بهذه العملية تقول الضفة لن نقبل ببقاء الاحتلال ولن نسمح له بالتهام الأرض وانتهاك العرض، مثل هذه العمليات تفجر بركان الثورة في صدور أحرار الوطن وتدفعهم للسير على خطى الأبطال الأوائل، رغم كل عمليات القمع والتنكيل التي تمارس بحق كل من يفكر بالحرية والكرامة ومقاومة الاحتلال.
باتت عمليات الضفة أكثر إيلاما واستنزاف للاحتلال، ونلاحظ أن نتائجها أكثر قوة وجدوى ودقة عن سابقاتها وذلك بفضل تطور التخطيط والدراسة الجيدان اللذان يسبقان تنفيذ العمليات، وبفضل التعامل بمبدأ السرية والكتمان والبعد عن أعين الاحتلال والسلطة، والحفاظ على المعلومات من التسرب، بالإضافة إلى استخدام أساليب أفضل عند التنفيذ، والانقضاض السريع والاختفاء المجهز سابقا، كما كنا نلاحظ في عمليات الأسطورة أحمد جرار الذي أذاق دولة الاحتلال الويلات وحمّلها العديد من الخسائر البشرية والمادية نتيجة لعمليات البحث المكثفة والمطاردات المتتالية، وهذا ما يعكف أبطال العمليات الفدائية على انتهاجه.
إن تكاتف اهل الأصالة والنخوة في ضفة العياش والهنود وطوالبة وجرار ونعالوة، له الفضل العظيم -بعد معية الله- في الحفاظ على مجاهدينا الأبطال المطاردين، حيث إنهم يسارعون لإخفائهم وإيوائهم أو على الأقل التستر وعدم الاعتراف عليهم والتهذيب عنهم وحمايتهم، وهذا لا يقل بطولة وجهدا عن جهد أبطال العمليات، ورأينا كيف أن أهل الضفة يتصدون ويشتبكون مع قوات الاحتلال المؤللة في الاقتحامات للمدن والقرى والبيوت بحثا عن الشهيد الأسطورة أحمد جرار قبل شهور. وما أشبه اليوم بالبارحة، فها هم أهل الضفة يعيدون الكرة في تصديهم لاقتحامات جيش الاحتلال، ويعلمون الأمة معاني التضحية والفداء.
من أي شعب يرزح تحت الاحتلال أن يدافع عن نفسه ويذود عن عرضه وأرضه باستخدام كل الأدوات والوسائل ومنها المسلحة، وإيلام الاحتلال واستهدافه في كافة أماكن وجوده على أرضنا، وتدمير كل ممتلكاته وإعطابها، وحرمانه من الأمن حتى يعلم أن بقاءه على أرضنا حرام، وذلكم الاستنزاف. والتضحية وتحمل كل النتائج مهما بلغت، كضريبة ثمنا للحرية حتى تحقيقها، فحرية الأوطان ليست مجانية ولا تأتي على طبق من ذهب.. وقيمة الأوطان لا تقدر بثمن، وليست تجربة الجزائر وأفغانستان وفيتنام عنا ببعيد.
على السلطة الفلسطينية الكفّ عن أشكال التعاون الأمني كافة مع من اغتصب أرضنا ومقدساتنا ومسرى نبينا، والكف عن ملاحقة المقاومة ورجالها، بل يجب أن تتبناها خيارًا لتحرير فلسطين بعد فشل نهج المفاوضات والتسوية، وإطلاق سراح كل عناصر المقاومة وأنصارها وحرائرها من السجون والذين آخرهم المعتقلة ظلمًا الأخت سهى جبارة، والعودة إلى الصف الوطني وحضن الشعب والتخندق في خندق واحد لمقاومة الاحتلال ومواجهة وإسقاط صفقة القرن.