أطلق أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، اليوم الاثنين 10 كانون الأول/ ديسمبر 2018، البوابة الإلكترونيّة لمعجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة.
جاء ذلك خلال حفل دعا إليه المركز العربي للأبحاث بحضور نخبةٍ من الأكاديميّين وعلماء اللغة العربيّة الذين حضروا من أنحاء العالم للمشاركة في هذا الحدث المفصليّ في تاريخ الثقافة العربية.
وافتُتِح الحفل بآياتٍ من الذكر الحكيم، ثمّ عُرض فيديو تعريفي عن معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية.
وذكر الدكتور علي الكبيسي، عضو المجلس العلمي لمعجم الدوحة، في الكلمة الافتتاحية للحفل أنّ تبنّي الدوحة مشروع المعجم التاريخي للغة العربيّة ورعايتها له، وهو مشروع يمثِّل الأمّة ويظهر حرص قطر على تعزيز هويّة الأمّة العربية من خلال النهوض بلغتها التي هي عنوان وجودها ورمز كيانها.
وأكّد أنّ معجم الدوحة يُعدُّ نقلةً نوعيّة في خدمة اللغة العربيّة، وهو أوّل محاولة عربية ناجحة للتأريخ للغة الأمّة.
هدية للأمة جمعاء
وأكد الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والمدير العام لمشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، في كلمةٍ ألقاها خلال الحفل، أنّ هذا المشروع العظيم والحدث التاريخي لإطلاقه لم يكن ليرى النور لولا الرؤية والإيمان بالعمل العربي المشترك والكفاءات العربية والإدارة السليمة. فكتب له النجاح بواسطة التعاون بين العلماء والهيئات التنفيذية والخبرات الحاسوية، وذلك بعد أن توقفت مبادرات أخرى لوضع معجمٍ تاريخي للغة العربية في منتصف الطريق في السنوات الماضية.
واستطرد بشارة منوّهًا بالإنجازات التي حققتها مشاريع سابقة، بدءًا بإنشاء مجمع اللغة العربية في مصر عام 1932 ومساهمة المستشرق الألماني أوغست فيشر الذي سعى إلى تسجيل تطور اللغة العربية حتى عام 300 للهجرة، وجاءت بعده محاولات أخرى، منها عمل الشيخ عبد الله العلايلي في لبنان، ومحاولات البدء بجمع شواهدَ في المشروع التونسي للمعجم التاريخي العربي الذي نجح في جمع شواهدَ من 90 شاعرًا جاهليًّا من عام 200 إلى 609 للميلاد، ومحاولة اتحاد المجامع اللغوية والعلميّة العربية، إذ عُقدت عدّة ندوات وشُرع في اختيار المصادر الأساسية والثانوية للمدونة. وهو جهود مقدرة بالتأكيد.
غير أن هذه الجهود مع ما حققته لم تصل فعلًا إلى إصدار معجم تاريخي للّغة العربية، وآيس اللغويون العرب تحقيق حلمهم، إلى أن تبنّى المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وطرحها في عام 2012 على سمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان حينها وليًا للعهد، فتحمس لها وساندها منذ بداية العمل.
وأضاف بشارة: "لسنا أصحاب الفكرة إذًا، ولكنّنا نحن الذين امتلكنا الجرأة على بناء هذا المركب والإبحار به في بحر تاريخ اللغة العربية، وأثبتنا بالمنهج العلمي والمهارات الإدارية والعمل الجماعي الممأسس، في المجلس العلمي والهيئة التنفيذية وفرق المعالجة المعجمية، أنها ممكنة التنفيذ".
واستطرد بالقول: "عَلِمنا أنّ المسلكَ وعرٌ، والمهمةَ معقدة دونها مشقاتٌ أدركنا بعضَها وجهلنا غيرَه في تلك المرحلة. ولكن الرؤيةَ والعزيمةَ توافرتَا، وتوافرت الرعايةُ الكريمة والمتفهمة التي منحتها للمشروع قيادةٌ قطرية صاحبة رؤية. وتوافرت الثقة بالقدرات والكفاءات العربية والعمل الجماعي الممأسس، وتسخير التقنيات الحاسوبية على نحوٍ غير مسبوق، وتطوير ما لم يتوافر منها في خدمة العربية".
وشدد بشارة على أن ما حققه مشروع معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية في خمس سنوات منذ بدْء العمل فيه، استغرق خلالها وضع الأسس والمنهج وإعداد القاعدة الحاسوبية الرقمية عامين كاملين، يعد إنجازًا كبيرًا وفريدًا على المستوى العربي وحتى الدولي؛ ففي ثلاث سنواتٍ تمّ إنجاز مئة ألف مدخل معجمي تغطي سبعمئة سنة إلى غاية عام 200 للهجرة، على الرغم من خصوصية الصعوبات التي تميز العربية. علمًا أنّ الصعوبات في حالة اللغة العربيّة تفوق أيّ لغة أخرى أُرّخ لها معجميًا.
وأشار في هذا الخصوص إلى عدد من تجارب المعاجم التاريخية في لغات أخرى؛ فقد استغرق الألمان قرنًا وعقدين للانتهاء من 400 عام فقط من تاريخ لغتهم، واستغرق العمل على المعجم التاريخي للّغة الإنكليزية 70 عامًا لينتج أول إصدار منه، وهي المدة نفسها التي قضاها علماء اللغة الفرنسيون في الانتهاء من تأريخ المفردات التي تندرج تحت حرف "A" وحده.
وأوضح بشارة أن المعاجم التاريخية ترتبط في جميع اللغات بالنهضة والتنوير، لأنّ اللغة صنوٌ لنهضةِ أيِّ أمّة، ويكمن الفرق بين النزعة التاريخية النهضوية التنويرية والنزعة التاريخية الرومانسية في أنّ الأولى لا تعود إلى الماضي نكوصًا لتكريس صورةٍ عن عصرٍ ذهبي لا يتلوه إلّا الانحطاط، ولا من أجل بلورة ما تعتبره شخصيةَ الأمةِ وروحَها، بل لكتابة تاريخِ الأمة، ومسارِ تطور معارفها، وفهمِ أحداث الماضي في سياقها بأدواتٍ عقلانية؛ وذلك من أجل الانطلاق نحو المستقبل.
واختتم عزمي بشارة كلمته قائلًا: "لقد قررنا في المركز العربي للأبحاث أن نسميَه ’معجم الدوحة التاريخي للّغة العربية‘، لأنّ مشروعنا هو أيضًا هدية ثمينة للغاية من الدوحة إلى الأمّة جمعاء.. وكما كانت مدنٌ إيطالية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ومدنٌ حرة في وسط أوروبا وشمالها، مهدَ النهضة في تلك الأصقاع، تثبت قطر أنّ بلدًا غنيًا برؤية قيادته وحرية إرادتها ووعي شعبه وموارده بإمكانه أن يكون مرتَكزًا من مرتكزات نهضةٍ عربية قادمة".
أما بالنسبة إلى أهمية الحدث وفرادته فجاء في كلمة عز الدين البوشيخي، المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية أنّ "الأمّة أصبحت بوجود معجمٍ تاريخي للغتها، قادرةً على أن تجمع تراثها الأدبي والديني والعلمي والثقافي المبثوث في النصوص جمعًا واحدًا؛ ينبني على ذلك أن الأمّة العربية أصبحت قادرة على إضفاء طابع النظام على فكرها في سيرورته التاريخية، كما انعكس في مرآة لغتِها.
وذكر البوشيخي أنّ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية انفرد بإنجازه على غير منوالٍ سابق في اللغة العربية، بإعداد زهاء مئة ألف مدخل معجمي، مرتّبة ترتيبًا تاريخيًّا من أقدم نقشٍ أو نص إلى عام 200 للهجرة، مشيرًا إلى أنّ معجم الدوحة التاريخي، في مرحلته الأولى، عملٌ تأسيسي منفتح على المراحل الموالية، وقابل للتّحديث المستمر، ومفتوح أمام مشاركة العلماء والباحثين باقتراح التصويب والتعديل والإغناء.
وأكّد الدكتور رمزي بعلبكي، رئيس المجلس العلمي لمعجم الدوحة، في كلمته على أن عناية المعجم بالمواءمة بين المعرفة التراثية التي تركها الأجداد، والمعرفة الإنسانية الحديثة التي شهدت ثورةً علمية في مجال العلوم اللغوية عامّةً وعلم صناعة المعاجم على وجه التخصيص، رائدة يفخر بها كلّ عربي أصيل. وشكر دولة قطر والقيّمين عليها لرعايتهم هذا المشروع التاريخي، وأشاد بحماس عزمي بشارة للمشروع وسعيه الحميد لدعمه ومتابعته الدائمة.
واستمع الحضور، أثناء الحفل، إلى قصيدة نظمها آدي ولد آدب عن المعجم بعنوان "معجم الدوحة، حلم العرب"، وقصيدة حسين الزراعي التي نظمها بعنوان "معجم الأمّة"؛ ويُشار إلى أنّ الشاعرين خبيران لغويّان في معجم الدوحة التاريخي.
تخلّل الحفل عرض شهادتين مسجلتين؛ الأولى لفيرنر آرنولد أستاذ الدراسات الساميّة في معهد اللغات والثقافات في الشرق الأدنى في جامعة هايدلبرغ، والثانية للوتز إدزارد أستاذ العربيّة واللسانيّات الساميّة بجامعة إرلانقن – نورنبرغ، يشيدان فيهما بالعمل المنجز في معجم الدوحة التاريخيّ، ومعايير إنجازه.
وفي رسالة وجهها حسن الشافعي، رئيس اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، إلى الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي للأبحاث، عبّر فيها عن شكره وتقديره للدعوة بالمشاركة في حفل إطلاق البوابة الإلكترونية للغة العربية، متمنيًا أن يكون في هذا الحفل لولا ظروف طارئة حالت دون تحقيق ذلك.
وفي ختام الحفل، أطلق صاحب السموّ أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، البوابة الإلكترونيّة لمعجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة على الشبكة، ثُمّ عُرض فيديو عنوانه "جولة في البوابة الإلكترونيّة لمعجم الدوحة التاريخيّ" يعرِّف بالبوّابة الإلكترونيّة ويوضِّح ما تقدِّمه لمستخدِميها من خدمات معجميّة.