لم تكتف الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية بإرسال جواسيسها إلى قطاع غزة بهدف تركيب وصيانة أجهزة تنصت وتجسس على أبناء شعبنا هناك، وهم ينتحلون هويات مزورة بأسماء مواطنين من غزة، بل انحدرت إلى الحضيض من خلال استخدام أنبل مهنة إنسانية، وهي مهنة الطب، كغطاء من خلال الادعاء بأن جواسيسها هم أطباء وممرضون موجودون في غزة لخدمة المرضى.
هناك توافق عالمي وحضاري على تحييد مهنة الطب عن الاستخدام لأغراض سياسية، وخاصة عن استخدامها لأغراض تجسسية أو استخباراتية حقيرة.
وعندما يؤدي الأطباء في كل العالم "قسم أبقراط"، فإنهم يتعهدون أولا بعدم إيذاء البشر من مرضاهم، وثانيا بأنهم سيقدمون علمهم ومهنتهم الإنسانية لكل من يحتاجها بغض النظر عن جنسه، أو دينه أو قوميته أو معتقداته أو وظيفته.
ولم تكن صدفة أن يطلق على الأطباء والممرضات لقب ملائكة الرحمة، لأن المُتوقع منهم الرحمة غير المشروطة، والابتعاد عن إلحاق الأذى.
وليست صدفة أن الناس يضعون ثقتهم في الأطباء والممرضين لأنهم يتوقعون منهم، بغض النظر عن بعض الحالات الشاذة، أرفع أشكال الرعاية والمسؤولية في التخفيف من آلامهم وتقديم العلاج لهم.
وعندما يلجأ رجال الاستخبارات الإسرائيلية إلى استغلال مهنة الطب وسمعة الأطباء للتغطية على جرائمهم، فإنهم يرتكبون جريمة مزدوجة، بل ويمارسون وقاحة مزدوجة يجب أن تكون مدانة ومرفوضة في كل المحافل، وعلى كل المستويات.
وهذه بالمناسبة، ليست الجريمة الأولى التي ترتكبها الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في هذا المجال، وهناك عشرات الحالات الموثقة، التي حاول فيها رجال المخابرات الإسرائيلية استغلال معاناة آباء وأمهات من قطاع غزة، كانوا يعانون من أمراض مستعصية، أو يرافقون أطفالهم الذين يعانون من السرطان أو أمراض فتاكة أخرى، لإجبارهم على العمالة للأجهزة الاستخباراتية، ووضعهم أمام خيار إجرامي، إما بفقدان حياة فلذات أكبادهم، أو العمالة وخيانة وطنهم.
وصف الكاتب الإسرائيلي، ران غولدشتيان، في مقال له بصحيفة "هآرتس" ما قامت به الأجهزة الإسرائيلية، على أنه "استغلال ساخر للطب لأغراض عسكرية"؛ وأنا أقول إنه ليس استغلالا ساخرا فقط، بل استغلال حقير ووقح لأكثر المهن الإنسانية نبلا واحتراما.
والسؤال المهم هنا، موجه لمندوبة الإدارة الأمريكية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، التي تنطحت لتمرير مشروع في الجمعية العامة للأمم المتحد لإدانة حق الشعب الفلسطيني في المقاومة والدفاع عن النفس، وفشلت فشلا ماحقا، فهل ستقوم هي وإدارتها بإدانة الفعل الإسرائيلي الذي خرق كل القواعد الإنسانية، وكل احترام للعمل الإنساني ومهنة الطب؟
وهل ستقوم حكومات بعض الدول التي تتبارى في ملاحقة المنظمات الإنسانية الفلسطينية لمحاسبتها على أي موقف مقاطع للاحتلال، بإدانة ما أقدمت عليه أجهزة الاستخبارات والحكومة الإسرائيلية من إساءة لمهنة الطب الإنسانية؟
على كل حال، فإن انحدار الأجهزة الإسرائيلية إلى هذا المستوى الدنيء لا يمثل برأيي علامة قوة،بل هو مظهر ضعف وإفلاس، في مواجهة إصرار الشعب الفلسطيني على المقاومة والنضال من أجل حقه في الحرية والكرامة، والمعاملة الإنسانية.