التقيته وكان له في السجن اثنتا عشرة سنة.. مكثت معه اثنتي عشرة سنة أغلبها شاركته فيها في ذات السجن وأحيانا ذات الغرفة، أعتقد أن أهم ما يميز نائل أنه يصارع في معركة الإرادات بعنفوان كبير يرتكز إلى وعي عال وإرادة قوية ، وإذا علمنا أن المعتقل في سجنه يدخل معمعة حرب نفسية ، أحد أطرافها مزود بكل إمكانات هذه الحرب من علوم وخبرات ومكر ودهاء وأدوات حادة صارمة: أهمها السجن وتفاصيله القاسية ، بينما الطرف الثاني يواجه فقط بما يمتلك صدره من إيمان وقضية وإرادة حرة وشعور عال بضرورة التحدي وحتمية الانتصار .. نائل كان متمترسا بخندق متقدم وفي معركة مفتوحة استمرت تسعا وثلاثين سنة .
- وهنا لا يمكن ان نمر سريعا على تسع وثلاثين سنة في سجون أرذل خلق الله . يتفنّنون بكل صنوف العذاب ، ساديّون حتى النخاع ، لو كانت تسعا وثلاثين يوما لحقّ فيها القول ولو كانت تسعا وثلاثين شهرا لكان لها شأن ، أما تسع وثلاثين سنة فاننا نعلن عجزنا وقلة حيلتنا في ان نطال علياء شموخ صبرها وثبات رباط أهلها ، لو وزعت على عشرة رجال لحقّ لهم ان يرفعوا رؤوسهم عاليا فكيف بها لرجل واحد ؟
- نائل بشر يقوى ويضعف ، يصيب ويخطئ ، يُقدم ويتراجع .. إلا في مواقفه ومبادئه تجاه قضيته التي سجن من أجلها لم يُلحظ ايّ تراجع او ضعف ، كما كان اول يوم هو الان بعد تسع وثلاثين سنة .
- سقفه العالي لم تعمل به السنين الطويلة عملها .. فلسطين كلها بقيت مزروعة في دمه ، لم ينل أعداؤه من اعترافه لهم بذرة من ترابها ، أو حقهم في تنسم نفس واحد من عبيرها . بقي على اعلى ما يروم له أصحاب الحقوق الثابتين على حقوقهم .
- في السياسة لا تلين له قناة ، يحلل الأبعاد المحلية والاقليمية والدولية فلا يهن ولا يضعف أمام تكالب قوى الشر علينا ، بل يزداد ثباتا وتمسكا وقوة وحزما في مواجهة كل ما يراد له ان ينال من حقوقنا .
- لم يكتف نائل بدور الحارس الامين على الثوابت بل شكل مدرسة يتخرج منها الرجال، فتح السجن كلية تدرّس فون الحرب النفسية وكيف تكون المواجهة الواعية القوية في هذا الميدان ، كل من يلتقي بنائل يأخذ منه هذه الروح العالية ، يستمد منه أنفاس الرجال الثابتين في الميدان ، فلم يقتصر عنفوانه على نفسه، بل عكف في سجنه على تخريج الكثيرين من هذه الكلية المميزة ، كان المطلوب من السجن وفق تخطيط السجان أن يصل الاسير الى الاحباط والياس ويتخرج منه حطاما لا فائدة منه فاذا بنائل ومن معه من الرجال يُخرّجون القادة والبطولة والرجال العظام .
نائل يقود حربا نفسية مستمرة منذ تسع وثلاثين سنة ، ومع اشراقة كل يوم جديد تفتح حرب جديدة يبدأ بعدد الصباح وينتهي بعدد المساء ، ومع كل اضراب تدخل أمعاؤه المعركة ومع كل تفتيش ليلي تكون المواجهة التي تحرق نفوسهم السوداء ببريق عينيه الصاخبتين ، يمتطي صهوة برشه متحفزا ، لا ينام حتى تنام نفوس اخوانه راضية مرضية ، يعد قلبا كبيرا حانيا على قلوبهم ورافعا لجبهة معنوياتهم ، لا يخلد الى نومه حتى يزرع في قلوب اخوانه حبا وأملا ، وفي ذات الوقت يملأ قلوب أعدائه قهرا وغيظا .. يتساءلون من أعماقهم : أنّى لهذا السجين أن يضرب في صدورنا كل هذا الضرب اللعين ؟ أما آن له أن يريحنا ويستريح ؟
كلا ، إنه هناك مغروس في اعماقهم سيفا بتارا ضاربا بكل صلابة ، وهو مغروس في أعماق أسرانا الاحرار شمسا مضيئة تملأ صدورهم دفئا وضياء ، وهو هنا خارج السجون مشعل نور ومحرك ثورة وراية جهاد خفاقة الى ان يكتب الله لنا النصر والتحرير .