فلسطين أون لاين

​معمّر من قرية حمامة

الحاج عوض يسرد حكاية قرن من العمر

...
غزة - ليلى أبو صقر

تجاعيد الزمن خطت ملامحها على وجهه، ترافقها ذكرى طفل صغير قهره اليتم، ومراهقة مليئة بالمغامرات والخدمة العسكرية، هي قصة حياة امتدت إلى قرن وما تزال مستمرة حتى اللحظة، "فلسطين" تروي حكاية المعمر الحاج محمد إسماعيل حسن عوض (أبو عبد الرؤوف).

الحاج عوض ولد في 1917م في قرية حمامة -بلدة مهجرة في الجنوب الغربي من ساحل فلسطين قبل حرب 1948- فصادف ميلاده نهاية الحرب العالمية الأولى، وبداية الاحتلال البريطاني لفلسطين.

ولد الحاج عوض يتيم الأب، فوالده توفي قبل ولادته، وبعد ولادته تركته والدته عند جده والد أبيه، فكان يتيم الأب والأم معًا، وتولى جده رعايته، يقول: "بدأت أعي ما حولي في عمر سبع سنوات أو ثمانية، ولا أتذكر من طفولتي سوى جدي، وعمتي فاطمة التي أحبتني كثيرًا وحنت عليّ طوال حياتها"، متابعًا: "كان لي عم واحد وعمتان".

طفولة قاسية

سكت قليلًا، والدموع تملأ عينيه، ليقول: "توفي جدي وعمري 12 عامًا، وحاول عمي أن يربيني مع أولاده، لكن زوجته رفضت بقولها: "يا أنا يا هو بالدار"، فسكت عمي، ولم يتحدث أو يلتفت إليّ"، ليبقى الحاج عوض جالسًا على عتبة المنزل لوقت قليل قبل أن يغادر المكان كله.

حتى أن عمه حرمه من ميراث أبيه، فقد كان لجده 150 دونمًا من الأرض، لكن عمه لم يعطه شيئًا، وقال له: "ليس لك أي شيء".

أخذته عمته فاطمة ليعيش لديها، وبدأ يعمل ليعيل نفسه بنفسه كونه أصبح وحيدًا لا سند له ولا ظهر في هذه الحياة، عند هذا الموقف لم يتمالك نفسه وأخرج من جيبه منديلًا ليمسح به دموعه، وهو يستذكر كيف مرت طفولته القاسية، ويكمل: "عملت في حراثة الأرض، وجني المحصول، والعتالة عند بعض العائلات في القرية".

بعد وقت أشار إليه صديق له بأن يلتحقا في الجيش البريطاني ففرح بالفكرة كثيرًا وتحمس لها، وذهب مع صديقه إلى صرفند -قرية فلسطينية مهجّرة تقع إلى الجنوب من مدينة حيفا، وتبعد عنها حوالي 19كم، وترتفع 25م عن سطح البحر- وهناك كانت قوات الجيش البريطاني المتخصصة في قبول طلبات الالتحاق.

لكن الجيش الانجليزي رفض طلب الحاج عوض وصديقه بالانضمام إلى الجيش؛ كونهما صغيرين في السن، حزن كثيرًا، فنادى عليه أحد عساكر الجيش الانجليزي، وأعطاه هو وصديقه زيين عسكريين لارتدائهما، لكن لم يعرف كيف يرتدي الحذاء العسكري (البسطار) فألبسه إياه العسكري، والتحقا في الجيش الانجليزي هو وصديقه.

يتابع حديثه: "ذهبنا إلى مصر، ثم ليبيا، وبقينا وقتًا من الزمن، ثم انسحبنا منها بعد أن احتلها الألمان، وذهبنا بعدها إلى السويس في ثكنة للجيش الانجليزي، وبقينا فيها وقتًا قصيرًا، ثم انتقلنا مع الجيش إلى أثينا عاصمة اليونان في مهمة، ثم عدنا إلى السويس".

ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية في عام 1939، وضرب أمريكا لليابان، حلّنا الجيش البريطاني بعد عشر سنوات من الخدمة العسكرية، فعدت إلى فلسطين عندها.

هجرة ومعاناة

يقول: "كنت في العشرينات من العمر، ركبت القطار من السويس حتى اللد، وطرت فرحًا إني عائد إلى حمامة، وكلي شوق لرؤية عمتي فاطمة لأني اشتقت إليها كثيرًا"، مضيفًا: "أخبرت عمتي برغبتي بالزواج".

تهدج صوته بالبكاء مرة أخرى، وهو يقول: "طلبت يد ابنة عمي، على أمل إصلاح علاقتي مع والدها، لأنه هو سندي الوحيد في هذه الحياة، لكن طلبي قوبل بالرفض من زوجته"، لكن عمته لم تتركه أسيرًا للحزن، فزوجته بعد وقت وأسكنته في منزلها.

وفي العام 1948 مع بداية حكاية النكبة، عندما أتت العصابات الصهيونية وبدأ تهجير الفلسطينيين من قراهم، كان الحاج عوض آخر من خرج من قريته حمامة هو وزوجته وابنته الصغيرة التي أسماها فاطمة تيمنًا بعمته التي قدمت له الكثير.

احمرت وجنتاه واغرورقت عيناه بالدموع، ورفع صوته، وهو يقول: "لماذا فلسطين؟ لماذا نحن؟، لما لا يجدون في هذا الكون الفسيح سوى فلسطين؟ لماذا نحن بالذات نهجّر ونقتّل ونعذّب، ونخرج من أرضنا رغمًا عنا؟".

عم الصمت قليلاً وسرح الحاج عوض وهو يستذكر كيف أنه وغيره اعتقدوا أنهم ذاهبون لأيام، ومن بعدها سيعودون لأراضيهم، وأملاكهم، لكن هذا لم يحدث!!

خرج من حمامة، وتفرق المهاجرون منها إلى أرض الله الواسعة، فمنهم من ذهب إلى غزة، وهو منهم وبالأخص اختار جباليا ليكون أقرب إلى بلدته ويعود إليها سريعًا وقتما يأذن الله بذلك، ومن المهاجرين من ذهب إلى الأردن أو لبنان وغيرهما.

العوض والرزق من الله

بعد وقت قليل على الهجرة، جاءت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الأونروا، وبدأت تنصب الخيام وتستأجر المنازل للاجئين، فكان حظه بيتًا في شارع البحر، أو ما يسمى حاليًا بمعسكر الشاطئ.

يتابع: "تركت غزة وسافرت إلى السعودية، لجني المال لأجل عائلتي، وعملت في البناء والباطون، لكني لا أذكر كم لبثت من الزمن هناك"، لكن ما يذكره جيدًا أنه جمع مقدارًا جيدًا من المال آنذاك وعاد به إلى غزة.

وانقض الحاج عوض على سوق العمل في غزة، ومارس كل مهنة يمكن أن توفر له لقمة العيش له ولعائلته، فعاد إلى العتالة، وبيع الخضار، وتوزيعها على البائعين في سوق فراس والزاوية، حتى استطاع شراء قطعة أرض مطلة على شاطئ بحر غزة، وبنى منزلًا عليها.

الحاج عوض ولد يتيمًا، لكن الله عوضه بأولاده، فرزقه تسع بنات وابنين، وله من الأحفاد ما يقارب الثمانين حفيدًا، وبلغ عدد أحفاد أحفاده ما يقارب 213 حفيدًا، وله أحفاد أحفاد الأحفاد، لكن كان صعبًا تعدادهم.

ما يزال الحاج عوض يأمل بالعودة إلى حمامة، وأن يراها قبل مماته ولو لمرة واحدة، فمتى يكون ذلك؟