موجة التطبيع الأخيرة تحمل دلالة واضحة الظهور على هشاشة المرتكزات التي تستند إليها الأنظمة العربية المُطبّعة، وغلبة المُرتكز الخارجي على عناصر القوّة الذاتية، سواء في بنية تلك الأنظمة، أم من جهة الشرعية الشعبية. والحال هذه، فإنّ هذه الأنظمة تستبطن إدراكًا عميقًا لأزمتها الوجودية، بيد أنّها تبحث عن الحلول في المكان الخاطئ، ذلك لأنّها ببساطة أعجز من أن تتبنى التوجّهات الصحيحة.
حينما انفجرت موجة التطبيع الأولى بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، تركّزت تلك الموجة في بلاد عربية بعيدة عن المجال الجغرافي للصراع، وبعضها يمتلك مقدّرات اقتصادية تحول دون التفسير الاقتصادي للهرولة نحو "إسرائيل"، لينكشف بذلك هشاشة النظام العربي كلّه، فهو مؤسس بالنحو الذي يجعله مرتبطا بعناصر الإسناد الخارجي، حتى لو ظهرت في بعض الأنظمة تعابير أكثر اقترابا من هموم الأمّة، لكنها لا يمكنها في الإطار الحاكم للمنظومة العربية؛ إلا أن تبقى في موقع وظيفي يؤهلها لنيل الحماية من القوى الكبرى، وهو ما يطرح السؤال، لا حول سياسات بعض تلك الأنظمة فحسب، بل عن البنية كلّها، بما في ذلك المعنى والقيمة من وجود بعض الدول!
ورغم ما هو حاصل من تغيّرات عميقة في المشهد الدولي، والانزياحات في مراكز القوّة، والانقسامات بين النخب والتيارات الحاكمة في الدول الأساسية في النظام الدولي، فإنّ التكيّف مع ذلك في النظام العربي، يتجّه نحو المزيد من الارتكاز على المعطيات الخارجية، التي لا تزيده إلا ضعفا. فمظاهر المبادرة، والخروج من السياسات المحافظة لدى بعض الدول الخليجية المؤثّرة مثلا، تدور حول محورين:
الأول: المزيد من الحرب على تيار الإسلام السياسي وملاحقته حيثما كان، بمعنى العمل الدؤوب على اجتثاث التيار المنبثق عن عمق المجتمعات العربية. والمسّ الجذري بعمق المجتمعات العربية لن يفضي إلا إلى مزيد من الفوضى والضعف والهشاشة، كما هو حاصل فعلا في غالب المجال العربي، ولا سيما في دوله الكبرى والمؤثّرة تاريخيّا، بينما تبدو مآلات الدول التي تتصدر لقيادة المشهد العربي من هذه البوابة تحديدا؛ قاتمة، فقد وضعت نفسها في مقامرة تفوق حجمها الاستراتيجي، وما تتطلبه الفاعلية الإستراتيجية من مقوّمات أكبر من الوفرة المالية، أو الرخاوة الاستراتيجية التي تتلبس المنطقة والعالم، فالرخاوة تنذر دائما بالتحولات والمفاجآت، وتترك الإمكان قائما لمزيد من الفاعلين.
الثاني: متآلف مع المحور الأول، فالانسلاخ عن الذات، أو العجز عن تدعيمها والاستناد إليها، سيكون بديله بالضرورة الفرار إلى العوامل الخارجية. ومع ملاحظة تلك الأنظمة للتحولات سالفة الذكر في المنطقة والعالم، فإنّ بديلها هذه المرّة سيكون في "إسرائيل"، والتي هي، وللمفارقة التاريخية، ليست في أحسن أحوالها، بخلاف ما قد توهم به الظواهر. ولأنّ سياسات تلك الأنظمة على النقيض مما يمكن أن تعبّر عنه تطلعات سياسات جديدة كما هو الحاصل في تركيا، أو سياسات متمردة على النظام الدولي كما هو حال إيران، فإنّ التحالف الطبيعي سيكون مع "إسرائيل"، خاصة وأن تلك الأنظمة في الأساس ذات دور وظيفي، ينفي أي تطلعات قومية أو عروبية أو تحررية لها.
يمكن الإضافة هنا، أن (إسرائيل) في هذا الوقت من التاريخ، بالغة النفوذ على الإدارة الأمريكية الحالية، وهو ما يدفع بعض تلك الأنظمة للتحالف مع بنيامين نتنياهو لتعبيد الطريق إلى إدارة ترامب. بيد أنّ هذا ليس مؤشرا ثابتا للقوّة، إذا أخذ بعين الاعتبار أن هذا اصطفاف إسرائيلي داخل الانقسامات التي تضرب النخبة الأمريكية الحاكمة، بل وحتى النخبة المهيمنة على النظام العالمي كلّه، فيبقى التحالف مع بنيامين نتنياهو مقامرة مكلفة جدّا في حال كانت الخسارة حليف أصحابها في النهاية.
والحال هذه، فإنّ المنظومة العربية بصورتها هذه، هي خطر على مصالح العرب كلّهم، لا على القضية الفلسطينية فحسب، والتي ظلّت تستخدمها منذ فجر هذه القضية، في حساباتها البينية، ولتعزيز مواقعها في العالم، على حساب الفلسطينيين، في تجرد مطلق من الإحساس الأخلاقي الذي ينبغي أن يحمّلها المسؤولية عن القضية الفلسطينية، وإذا بها توظّف تلك القضية لحسابات بالغة الأنانية لا تكاد في جوهرها تتجاوز مصلحة نظام، أو فرد على رأس النظام.
صحيح أن المنظومة العربية حذرة في صراعاتها البينية، على ما بينها من تناقضات، إذ إنّها تحاول دائما، بل تتفق على إغلاق مجالات التغيير بالفعل الجماهيري، ومن خارج أدواتها التقليدية، وتلتقي في ذلك مع الرؤية الدولية المهيمنة التي تمنع بدورها التغيير غير المحكوم لأدواتها في الهيمنة، وهو ما يفسّر اصطفاف العالم كله في موقع الثورة المضادة في مواجهة الثورات العربية، وتوزيع الأدوار لاحتوائها وضبطها والسيطرة عليها، إلا أن إمكانيات السيطرة تراجعت، لتتعاظم بذلك مخاطر الأنظمة العربية على بعضها، وعلى المصالح العربيّة كلّها، ويبقى المجال مفتوحا على مزيد من الاحتمالات.
يعني ذلك بجلاء كامل، التداخل التام بين القضية الفلسطينية، والمشكلات العربية المتعددة، والإطار العام البنيوي المتمثل في المنظومة العربية كلها. فالحاصل أن هذه الأنظمة خطرة حتى على الشعوب التي تحكمها، فهي أنظمة مرهونة لعناصر قوّة خارجية، في حين تقوّض كل عناصر القوّة الداخلية المستدامة، وتؤدي أدوارا وظيفية في هذه السياق على حساب الشعوب التي تحكمها، وعلى حساب شعوب عربية أخرى، وبالضرورة على حساب القضية الفلسطينية.
طالما أنّ الأمر كذلك، فإنّ ما أغفلته الموجة الأولى من الثورات العربية، من التداخل الحتمي بين القضايا الداخلية الذاتية بكل وحدة سياسية عربية، وبين قضية التحرر من الهيمنة الخارجية التي تمثّل "إسرائيل" تجليها الأوضح.. ينبغي أن يكون الهادي والمرشد في السعي للتغيير، فبوابة التغيير تتسع الآن ولا تضيق.
عربي 21