بداية لا أقصد المفهوم الحرفي المتعارف عليه للصحابة وإنما المفهوم الروحي القيمي لهذا الجيل الذي تربى وتخرج من الجامعة النبوية التي احتوت على عدة تخصصات مهمة جدا في حياة الإنسان: والتي أنتجت درجات عليا في الميادين: التربوية والتنمية البشرية وتطوير القدرات خاصة الإدارية والسياسية والعسكرية وكافة الشئون الثقافية والانسانية. فالصحابة من صحبوا رسول الله في حياته الشريفة وصحابة اليوم من صحبوا منهج رسول الله وجسدوه واقعا بأبهى الصور الممكنة.
الصحابة الذين كتب الله لهم أن يعيشوا التجربة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صناعة الذات وتطوير قدراتها والوصول الى أعظم النماذج فهما وتصورا وعطاء، ثم تجسيد ذلك كله على أرض الواقع، كان كل فرد منهم شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ثمرها طيب المذاق وكثير الفوائد، طوّعوا واقعهم الصعب لما أرادوا من قيم مثلى بددت ظلمات جاهلية سوداء ومظلومية حالكة وكانوا نورا وضياء ورسالة خالدة للبشرية جمعاء.
لم ينقطع ولم يجف نور هذه الجامعة النبوية بل بقيت خالدة الى يومنا هذا لنشهد فخر صناعتها من جديد، واذ دأبنا على الاستشهاد بالنماذج القديمة بينما نغفل عن الذين يعايشوننا ونعايشهم ويثبتون دوما حضور هذه الجامعة العريقة والتي ما زالت تخرج النماذج البشرية العالية الرفيعة. وهذا على الرغم من قسوة الظرف وغربة الدين الحنيف وتكالب الأعداء ومرارة الواقع وندرة الامكانات إلا أننا بين الحين والاخر تلوح لنا في الأفق نماذج عظيمة بضيائها الذي يسد الأفق ويبهر الأبصار.
ومن الأمثلة والنماذج العالية لهذه الأيام والذين اعترف بأنني لن أعطيهم اليسير من حقهم في عجالة كهذه: نور الدين بركة شهيد عند ربه، ونائل البرغوثي شهيد تحت وقف التنفيذ منذ تسع وثلاثين سنة، الأول شهيد المعركة والفداء والمواجهة الساخنة مع الغطرسة الصهيونة الرعناء، والثاني شهيد في سجونهم اللعينة وشهيد على الصبر والمصابرة على أقسى احوالها وشاهد بكل قوة وضراوة في حرب باردة لا تقل لعنة عن الحرب الساخنة والمواجهة الملتهبة.
نور بركة سار مسارا طويلا في الجامعة المحمدية، علما وتربية وتزكية، درس كأي أكاديمي في أي جامعة تخرج الألوف المؤلفة من الخريجين في العلوم النظرية، إلا أنه فقط جمع بين العلم والعمل، قطع المسافة الفاصلة بين العلم والعمل، كم من الأئمة والوعاظ وحملة شهادة الدكتوراة يشبعوننا بأبلغ ما لديهم من لغة وحصافة وأفكار عميقة وواسعة وشاملة ولكنهم لا نصيب لهم من العمل، يتحدثون عن الجهاد وكأنه في عالم ثان غير عالمهم، ينأى بنفسه عن المخاطر، نور بركة خاض غمار الحرب وفقه الدين الفقه الذي يعترك مع معمعان المواجهة، ولد فقهه من أقرب خنادق المواجهة لأشرس أنواع البشر عداوة لله وللبشرية الطاهرة، هذا الفرق الهائل بين من يتحدث عن الدين في الغرف المخملية وبلاط السلطان وفضائيات الدول الماجنة ومن يتحدث من موقعه المتقدم في القتال، بين عابد الحرمين وبين من تتخضب نحورهم بدمائهم.
نائل البرغوثي من موقعه المتقدم في ذات المواجهة الشرسة، لم تكن حربا في أيام معدودات ولا أشهر، ولا بضع سنين، أرجو أن ننتبه لهذا الرقم المهول، تسع وثلاثين سنة، محنة يوسف الصديق عليه السلام في سجنه كانت بضع سنين بينما نائل بضع عشرات من السنين ومع من؟ وفي أي سجون؟ في مواجهة دائمة وصاخبة وقاهرة على مدار الأربع وعشرين ساعة، وكان له مع الصبر الجميل التحدي وإغاظتهم بشموخ عنفوانه، وليس فقط الثبات والصلابة وإنما المثابرة الدائمة على تصليب عود من يلتقيهم من المعتقلين، كان جامعة تفرعت من جامعة رسول الله في ذات الروح وذات الرسالة الخالدة، تربية وتزكية ونماء وفكرا وحركة ليتخرج الرجال الذين على ايديهم يجري التغيير والتحرير القادم بإذن الله.
نائل خسر كثيرا بالمعنى المادي الدنيوي الضيق ولكنه بما حقق من شهادة عالمية دائمة ثابتة وبما أنجز في ذاك العالم الضيق مكانا والأرحب انسانية وزمانا، لقد أثبت نائل للعالم اجمع بأن هناك من يقهر السجن وهناك من لا تلين له قناة أمام جبروت الطواغيت، هناك من ينجز وينتصر رغم وعورة الطريق.
وكما أن هناك على الأرض خارج السجون وفي منطقة محررة نور وبركة تتجسد في شهادة هذا العالم العابد العامل "نور الدين بركة" هناك أيضا في عمق المحتل وفي عمق ظلماته داخل السجون أبو النور "نائل" يشع نورا وضياء ويقصم ظهر جبروتهم ويبشر بأن النصر بإذن الله قادم، دولة بكل ما تملك من قوة تخر صاغرة وترتعب من هؤلاء الصحابة الجدد، إنها لا قبل لها بمثل هذه المواجهة لأن مصيرها مع هؤلاء الصحابة الجدد مصير سابق عهد أجدادها مع الصحابة الأوائل بإذن الله.