حينما حلّقتُ مع زملاء صحفيين لأميالٍ كثيرةٍ بعيدًا عن أكبر سجن مفتوح في العالم، في رحلة خارجية نادرة الحدث لمليوني إنسان بقطاع غزة، كان يلازمنا هاجس من وقوع غارة قد يدوي صداها في أرجاء إسطنبول حيث كانت وجهتنا، تلك المدينة العريقة، الجميلة بأهلها وسواحها وتركيبتها العمرانية والبنيوية. ذلك شعور كان يتأتى للحظاتٍ ولحظاتٍ عند الساعات الأولى من وصولنا إلى محطتنا الأخيرة ضمن جولة سفر شاقة حيث إقامتنا في فندقٍ يجاور مطار المدينة.
في غزة المغلوب على أمرها، اعتاد المرء مشاهدة أو سماع "أجسام غريبة" بأنواع وأصناف مختلفة تعربد فوق أو تحت غيوم القطاع فتقذف حممًا نارية قاتلة على ساكني الأرض الأبرياء دون هوادة.
أيام قليلة فقط بل ساعات فصلت موعد مغادرتنا أرض قطاع غزة عبر معبر رفح عن تصعيد إسرائيلي غاشم جاء بعد عملية غدرٍ قطفت أرواح 7 من خيرة شباب فلسطين، قبل أن تتناوب طائرات حربية على متابعة مهمة ترويع البيوت الآمنة. حقًا ما زالت مشاهد القصف والدمار ماثلة أمام أعيننا تمامًا، كما هدير الطائرات وأصوات الانفجارات التي لم تتوقف بعد عن الطنين في آذاننا بعد أن صمّتها واخترقت طبلاتها!!
ولأن مدينة "التلال السبع" تُعرف بأنها مفترق طرق قارات العالم، فإنها لا تُغمِض عينًا ولا تذوق للنوم طعمًا أبدًا من كثرة نزلائها وعشاقها من جنسيات وأعراق مختلفة. ومن الطبيعي في حالة كهذه ألّا تتوقف حركة الطيران عن الدوران تصول وتجول عواصم ومدن الكون شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا.
في ذروة انشغالنا في تغطية فعاليات ملتقى إعلامي لم نغفل عن مراقبة ما تقوله ألسنة المسؤولين الإسرائيليين حول توعد غزة بضربة "انتقامية" تعيد الهيبة المفقودة لجيشهم المأزوم بعد فشل واحدة من أكفأ مجموعاته الخاصة في تنفيذ مهمة اغتيال أو اعتقال نشطاء بالمقاومة أو حتى قابلية التجسس على ما يحتفظون به من "كنز ثمين" بين أياديهم الضاغطة على الزناد وفي باطن الأرض من عتاد سالت من أجله دماء وفاضت أرواح!!
كانت عشرات الرحلات الجوية المدنية تنطلق من مطار إسطنبول، لا يفصل بين الأولى وشقيقتها دقائق معدودة ينبعث من طائراتها عند هبوطها أو صعودها قريبًا من أرضية المطار أصوات كأنها طلعات لطائرات F16 حربية إسرائيلية! ربما من غير مبالغة أن يأتيك شعور كهذا، يتولد منه رأفة وشفقة بحال أهل غزة، فقابلية اندلاع حرب جديدة عليهم واردة في كل لحظة، حتى لو قال المراقبون والمتابعون غير ذلك، فالإسرائيليون دون شك "متورمون" و"متحلفون" لغزة على ما فعلت بقوات نخبتهم، عدا عن أن الغدر من طباعهم قبلا.
عندما نظرنا إلى مساحة قليلة من واقع البلاد هنا، دعونا الله حبًا فيها وبرئيسها وحكومتها وشعبها أن يجعل منها بلاد أمن ورخاء واستقرار، فلها أفاضل كثيرة في دعم القضية الفلسطينية ومن القلب منها غزة، التي جاءها قبل ثمانية أعوام وبعد ذلك، أفواج من المتضامنين الأتراك ومن أحرار العالم، ليهدموا جدار حصارها ويكسروا سيف الظلم المصلت على رقاب أهلها من عدو متجبر يحرمها من حقها في تقرير مصيرها. غزة تستحق حياة كريمة تليق بتضحيات أهلها من أجل مستقبل أطفالها ورجالها ونسائها وشبابها وما تبقى من عمر شيوخها.
من حق غزة أن تنفذ إلى أقطار السماوات والأرض تعانق معمّريها وتبادلهم ثقافات ولغات دون سدود أو حدود، ولا حواجز تفتيش وطول انتظار.
غزة لها الحق في إعادة بناء مطارها وتدشين ممرها المائي في عباب البحر الأبيض المتوسط. هذه مطالب إنسانية يسيرة لا صلة لها من قريب أو بعيد بمخططات سياسية مشبوهة تندرج في إطار تنفيذ ما تسمى "صفقة القرن" ولا بمشروع إزاحتها بعيدًا عن مساحات الوطن!