عندما يرتفع النبض الثوري، عندما تبلغ قلوب الحب والحنين والعشق للبندقية الفلسطينية كل مبلغ، عندما يعلو صوت المقاومة وعندما تلعلع صواريخها في سماء فلسطين وتزرع الهلع في قلوب الغاصبين، عندما ترفرف راية الروح الأصيلة لهذا الشعب العظيم، وعندما تتلاحم أرواح الشهداء قديمها وحديثها في جنة الخلد، ثم يشع ضياؤها لتصل القلوب التي حافظت على نقائها، عندئذ تنتفض الأرواح وتتزلزل طبقات الران والركام فتنطلق الحناجر لتشكل شارعا فلسطينيا واحدا، ممتدا من رفح جنوبا إلى جنين شمالا، ولقد تجسدت هذه الروح العالية الواحدة الموحدة في شوارع رام الله، تحسسوا أرواحهم فجأة فإذا بمحمد ضيف متحفز هناك في أعماقها، لم تتوجس أو تنتظر الحناجر، ارتفعت بأعلى ما عندها لتهتف لمحمد ضيف، نصبوه عنوانا لجراحاتهم ورمزا لكرامتهم وروحا ثائرة تنتصر لهوانهم على الناس، وجدوا الرافعة التي تسموا بها قلوبهم وليجدوا أنفسهم هناك عاليا عاليا في رحاب الشهداء.
هتف شارع رام الله لمحمد ضيف وهذا ليس غريبا، بل هذا دليل على نبض هذا الشارع الصادق، إذ طالما عبر عن روحه الثائرة وجسد أصالته الوطنية الشامخة، كانت إجابة صارخة لكل الذين أرادوا لهذا الشارع أن ينحني ويبتعد ويغترب عن هويته، عندما يتكلم الشارع لا يعرف إلا هذه اللغة، لا يوجد رد على هذا الاحتلال في القاموس الجمعي الوجداني الفلسطيني إلا الثورة، هذه هي اللغة البليغة وهذا هو الناطق الرسمي لهذا الشعب المسحوق، لذلك وجدنا محمد ضيف حاضرا بقوة ووجدنا هذا الشارع الأبي يحتضن محمد ضيف ويجوب به شوارع رام الله كرمز لهذه الروح الثائرة.
لقد انشغل طويلا وكثيرا على الرأي العام والمزاج العام لهذا الشارع العصي، لكنه عودنا دائما النهوض سريعا والعودة إلى هذه الروح، أشغلوه بعد أوسلو بسيمفونية سنغافورة الشرق الأوسط وأن الدولة الفلسطينية لا محالة قائمة حرة أبية سمينة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، وأن السلام سيصنع منطقة السمن والعسل وستنعم شعوبها بالرخاء والأمان والنهضة الاقتصادية، ستجتمع عناصر النهضة من خلال المال العربي والأيدي العاملة المصرية والمياه التركية والعقل الإسرائيلي.. هكذا حلم شمعون بيرس، جعل العقل والسيادة لهم بينما يرى في العرب والأتراك الخردة البشرية التي لا تستحق إلا الكد والعمل لأنها بلا عقل بينما هم العقل المشغل والمستفيد طبعا.
هذه العقلية المتغطرسة لا يمكن أن تتعايش مع أي عقلية أخرى إلا أن تكون لها الهيمنة الكاملة بينما الآخر ليس له إلا الذلة الكاملة، لا يعرفون مطلقا الشراكة في أي شيء ولو كان نقيرا أو ذرة تراب، لا يحترمون عرفا بشريا ولا عهدا ولا ذمة ولا ناموسا طبيعيا، فقط شراكتهم تكون في جريمة أو فساد في الأرض أو إيقاد حرب أو تسعير عدوان.. هذا أدركه الشعب الفلسطيني وسكن في أعماقه من خلال تجربة مريرة أعطى فيها المفاوض الفلسطيني كل ما عنده فلم يجد إلا السراب وذر الرماد في العيون.. لذلك نجد هذا الشارع ينبض بسرعة نبضه العالي، نجده يستحضر أبطاله الذين عرفوا كيف يوجعوا هذه الغطرسة، عرفوا الطريق إلى لجم صلفه وعدوانه، ونجحوا نجاحا باهرا في الرد المناسب الذي عرف سر هذه الروح الشريرة فكسروها في أعماقها وزرعوا الرعب في جنباتها.
محمد ضيف كان حاضرا في المظاهرات التي جابت شوارع رام الله الأيام الماضية، أيام العدوان على غزة. إنه رؤية متقدمة وواضحة لما هو عليه شعبنا العظيم رغم الظلم وكل محاولات السحق والتزييف والتذويب.