في بيت يقع قبالة مستوطنة كريات أربع وسط مدينة الخليل، تذرف والدة الشهيد وائل الجعبري الدموع حزنًا على فراقه، وما يزيدها ألمًا تعمد سلطات الاحتلال تأخير تسليم جثمانه منذ 70 يومًا لمنحه قبلة الوداع الأخيرة قبل إكرامه بدفنه.
أم رائد الجعبري، التي تعاني من مرض السكري، تنتظر عودة جثمان ابنها على أحر من الجمر، إذ يتفطر قلبها وجعًا منذ أن هرعت لرؤيته في سيارة إسعاف فلسطيني لحظة إطلاق النار عليه من قبل قوات الاحتلال.
وأعدمت تلك القوات الشاب الجعبري (28 عامًا) يوم الاثنين، الثالث من سبتمبر الماضي، أمام بيته في مدينة الخليل، دون أدنى احترام للإنسانية التي يتغنى بشعاراتها قادة الاحتلال.
ففي ذاك اليوم وكعادته رافق الجعبري نجله الطفل أحمد (9 أعوام)، متجهين إلى بقالة المواد الغذائية قرب بيتهما، ليشتريا مستلزمات البيت، وحاجيات الطفل قبيل ذهابه إلى مدرسته الابتدائية.
في تلك اللحظات، التي رواها الطفل أحمد، لـصحيفة "فلسطين"، وجه جندي إسرائيلي قناصته تجاههما ليصرخ هو فجأة ومن أول رصاصة أطلقت على والده "طخوا بابا طخوا بابا"؛ إلا أن هذه الصرخات لم تلق آذانًا صاغية من جنود الاحتلال حيث واصلوا إرسال الطلقات النارية صوبه وهو جريح ينزف على الأرض.
تلك الأحداث جرت أمام بيت الشهيد الجعبري، والذي استقل به عن بيت أهله بعد زواجه قبل 9 أعوام، رزق خلالها بطفلين سماهما أحمد (9 أعوام) و زينة (5 أعوام)، وكانا شاهدين على توسع مستوطنة كريت أربع ونهبها لأراضي الخليل.
يقول أحمد وبلغة طفولته البريئة وبلكنته الخلايلية: "رحت مع باب يشتري لي عصير وأغراض للبيت، اليهودي طخه قدامي، وكمان وهو نايم على الأرض"!، مضيفاً: "بدنا بابا، بدنا إياه نزفوا أحلى شهيد وعريس".
ويخيم الطفل مع أجداده وأمه، وعائلة الجعبري، في اعتصام منذ 10 أيام، على دوار ابن رشد، وسط محافظة الخليل، مطالباً باستعادة جثمان والده، قائلاً: "بدنا بابا، نعمل له جنازة كبيرة، وندفنه ونقرأ عليه الفاتحة".
ويروي الطفل، مشاهد يومية من اعتداءات المستوطنين وجنود الاحتلال على أهالي الخليل القاطنين في محيط "كريات أربع": "كنت أشوف الجنود كل يوم، بوقفوا الناس وأهلي"، مستذكراً معاناته أثناء ذهابه إلى مدرسته.
قلب الأم يتألم
في أول لحظات إصابة الشاب وائل، هرعت والدته إلى مكان بيته، لتجد سيارة الإسعاف الفلسطيني، مستشعرة وجود ابنها فيه، إلا أنها تفاجأت بغير ذلك ليحتجز الاحتلال الإسرائيلي، جثمانه، ولتنقل الوالدة فوراً للعلاج إلى المستشفى، بعد أن أغمي عليها.
"صحيت في المستشفى وعارفة ابني مستشهد وقلت الله يرحمه"، بهذه العبارة أكملت الوالدة مرحلتها الجديدة، من الصبر والمواساة، إذ أصرت على الذهاب إلى منزل ابنها، وعدم المكوث كثيراً في مستشفى مدينة الخليل للعلاج، لمؤازرة زوجة ابنها وأطفاله والاطمئنان عليهم، بعد محاصرة جنود الاحتلال البيت.
رغم صعوبة الموقف الذي عاشته والدة الشهيد، أبدت بقوتها وكبر سنها البالغ (55 عاماً) عزيمة لا تلين، وتحدثت لـ"فلسطين" عن مرحلة الإسناد الدعم: "أسرعت مع أقاربي إلى مكان استشهاد ابني، للوصول إلى بيته، إلا أن جنود الاحتلال منعوني وقررنا الذهاب من بيت لآخر ومن شوارع التفافية للوصول للبيت".
ووجهت الجعبري رسالتها إلى الاحتلال الإسرائيلي بأن يتحقق من روايته المزعومة أن نجلها حاول تنفيذ عملية طعن، متحدية إياه بأن يعرض مقطع فيديو يوثق مزاعمهم، مشددة على أن نجلها كان يجهز نفسه للعمل اليومي.
وقالت: "بدنا ندفن ابنا، وإكرام الميت دفنه، وقلبي لا يتحمل أن يبقى ابني في الثلاجات، هو شهيد صحيح، وموجود في الجنة، بس لازم ندفنه، وباقي الشهداء المحتجزين".
ويعاني أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم، من مماطلة إسرائيلية دائمة، بمنع تسليمهم جثامين أبنائهم، المحتجزة في ثلاجات الموتى، بدرجة حرارة أقل من 70 تحت الصفر، أو في مقابر الأرقام.
"بدنا أولادنا"
وتحدياً لهذه المعاناة، قرر والد الشهيد، الحاج أبو رائد، الاعتصام الدائم في مدينة الخليل، بمشاركة عوائل الشهداء المحتجزة جثامينهم، قائلاً: "مطلبنا الوحيد هو استرداد جثامين الشهداء في الضفة الغربية وقطاع غزة وكل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشهداء الأرقام".
في تلك الحملة، التي أطلق عليها أهالي الشهداء "بدنا أولادنا"، وبدأت فعالياتها منذ 3 سنوات، أكد والد الشهيد لصحيفة "فلسطين" أن اعتصامه استمرارًا لحملات سابقة، أقامها أهالي الشهداء لاسترداد جثامين أبنائهم.
وطالب والد الشهيد، القائم على الاعتصام المفتوح، السلطة الفلسطينية بالوقوف بشكل جاد مع أهالي الشهداء في تحقيق مطلبهم، والسعي لاسترجاع جثامين أبنائهم، متهمًا السلطة بأنها "مقصرة في استرجاع جثامين أبنائنا، ولا يتعاونون مع أهالي الشهداء، ويعطوننا وعودًا فقط".
وتحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ أكثر من 3 سنوات، جثمان 31 شهيداً منهم 19 شهيدًا من الضفة والقدس المحتلتين، و12 شهيدًا من قطاع غزة، أقدمهم الشهيد عبد الحميد أبو سرور.