إذا كان "وعد بلفور" وصفقة "القرن" ضلعان في مثلث ضياع فلسطين التاريخية منذ 1917 وصولًا إلى 2018؛ فإن ثمة إيمانًا واسع الانتشار وطنيا بأن الضلع الثالث هو اتفاق (أوسلو) الموقع سنة 1993.
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الآخر 1917، كانت الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة، خطوة اتخذها الغرب لإقامة كيان احتلالي يدعى اليوم (إسرائيل) على تراب فلسطين.
أبلغ بلفور، روتشيلد بالنيابة عن الحكومة البريطانية أنها تنظر بما أسماها "عين العطف لتأسيس وطن قومي" لليهود في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.
وبعد 76 سنةً، جاء اتفاق (أوسلو) الذي يوصف رئيس السلطة –الذي انتهت ولايته في 2009- محمود عباس بأنه مهندسه، ليتنازل عن 78% من أرض فلسطين التاريخية، ويفتح الباب واسعا أمام استشراء الاستيطان في المناطق المصنفة "ج" بالضفة الغربية التي تشكل 61% من إجمالي مساحة الضفة، واستباحة ما تبقى منها بالاقتحامات والاعتقالات، التي يستثنى منها مقر المقاطعة في رام الله.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استغل هذه المعطيات، في ظل تطبيع عربي رسمي مع (إسرائيل)، ليتخذ خطوات على الأرض ضمن ما تعرف بـ"صفقة القرن"، منها الاعتراف بالقدس المحتلة "عاصمة" مزعومة لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ووقف المساهمة الأمريكية في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".
إعلاميا، يبدي عباس معارضة لهذه الصفقة، بيد أنه يعد في مقدمة من روج لها في لقاء جمعه بترامب في سبتمبر/أيلول 2017، عندما شكر الأخير "على إتاحة الفرصة" للقائه، قائلا: "إن دل هذا على شيء إنما يدل على جدية الرئيس (ترامب) أنه سيأتي بصفقة العصر للشرق الأوسط خلال العام أو الأيام القادمة".
ويواصل عباس سياسة التنسيق الأمني الذي يصفه بـ"المقدس" مع (إسرائيل)، ويفرض إجراءات عقابية على قطاع غزة المحاصَر منذ 12 سنة، تشمل الخصم وقطع رواتب موظفي السلطة في القطاع دون الضفة الغربية، وتمس مجالات حيوية كالصحة والكهرباء وغيرها، كما أنه متهم وطنيا بالإقصاء والتفرد والاستحواذ على مؤسسات منظمة التحرير وعقدها بشكل انفصالي.
ولطالما ردد عباس: "أنا ضد المقاومة.. أنا علنا بحكي، أنا ضد المقاومة علنا"،"نحن نشتغل عند الاحتلال"، "أنا عايش تحت البساطير الإسرائيلية"، كما أنه تنازل عن حقه في العيش بمدينته صفد التي هجرت العصابات الصهيونية أسرته منها سنة 1948.
ويصف رئيس المنتدى الفلسطيني في بريطانيا حافظ الكرمي، وعد بلفور بأنه بداية التآمر على فلسطين، الذي لم يتوقف ابتداء من الاحتلال البريطاني وتمكين العصابات الصهيونية ثم بعد ذلك دعم الغرب المشروع الصهيوني وتشجيع الهجرة الاحتلالية إلى فلسطين ومدها بالسلاح والمال، وصولا إلى "صفقة القرن" التي تشكل حلقة في سلسلة تمثل مشروعا غربيا لدعم (إسرائيل) في المنطقة.
وعن سؤال: هل السلطة معرقلة أم مسهلة لصفقة القرن؟ يجيب الكرمي لصحيفة "فلسطين"، أن السلطة ناتجة عن مشروع أوسلو "الكارثي" على الشعب الفلسطيني، واصفا إياه بأنه "جزء من المشروع الصهيوني من خلال استغلال هذه السلطة وأجهزتها الأمنية لقمع الشعب الفلسطيني والفتك بإرادته ومقاومته وشوقه للتحرر، وادعاء أن السلطة تمثل الشعب".
ويرى الكرمي أن السلطة "أصبحت جزءا من هذا المشروع الصهيوني"؛ على حد تعبيره، قائلا: إن اتفاق (أوسلو) "لا يقل سوءا وإجراما وتفريطا بحقوق الشعب الفلسطيني عن صفقة القرن، بل إنه مهد لها".
ويلفت إلى أن (أوسلو) جرى "في ظلام الليل" دون علم الشعب وقواه الفاعلة والمقاومة، معبرا عن اعتقاده أن معارضة عباس إعلاميا للصفقة تمثل "عنتريات صوتية" ليس إلا.
ويتهم السلطة بأنها "جزء من التمهيد للتمكين للكيان الصهيوني والتنازل عن الثوابت الوطنية المعروفة".
ويشير إلى أن هذا الاتفاق لم يكتف بالاعتراف بـ(إسرائيل) على 78% من فلسطين التاريخية، وإنما لم يحدد مصير المساحة المتبقية أيضًا وتركها للتفاوض الذي جاء بنتائج معاكسة لمصلحة الشعب الفلسطيني منذ ربع قرن.
"أدوات ضعيفة"
من جهته يقول مدير مركز دراسات الشرق الأوسط د. جواد الحمد: إن وعد بلفور أسس (إسرائيل) وما تسمى "صفقة القرن" تحاول أن تؤمّنها وتدخلها في المنطقة.
ويضيف الحمد لصحيفة "فلسطين"، أن لدى ترامب أفكار يسعى إلى ترويجها واستخدام أدوات "فلسطينية وعربية" في المنطقة، لكنها "ضعيفة وعاجزة ولا تستطيع القيام بأي مهمة".
ويفسر بأن الشعب الفلسطيني هو الأداة الفاعلة لوقف ما يحاك ضد وطنه، ولو ترك وحده أمام وعد بلفور لربما أوقفه، لكنه يتحدث عن تخريب للمشروع الفلسطيني عندما دخلت جيوش في المنطقة لتطبيق قرار التقسيم بدلا من أن تواجه العصابات الصهيونية.
ويشدد الحمد على أن الشعب الفلسطيني أخذ اليوم بزمام المبادرة، ولذلك حتى الطرف المؤمن بالمفاوضات ووقع اتفاق (أوسلو) لا يستطيع أن يتقدم بخطوات إلى الأمام في تقديم تنازلات لأنه لا يجد أي مبرر يمكن أن يقدمه للناس.
ويقول الحمد: إن مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار السلمية في قطاع غزة أوجدت بيئة حاضنة للفكر الفلسطيني المؤمن بتحرير فلسطين وعودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
وفي ظل ذلك "لا يجرؤ أي حاكم عربي أو مسؤول فلسطيني على التقدم أي خطوة باتجاه القبول بجزء من صفقة القرن"؛ وفق اعتقاده.
لكن الحمد يتمم بأن سياسات السلطة تجاه القطاع تضعف القدرات الفلسطينية على مقاومة الاحتلال ومشاريعه.