التطبيع يجري بتسارع كبير وخطى واسعة، وعلى عادة الغرب فإنه يقدم جزرة ويرفع عصا، هذه المرة بقيادة ترمب لم يعد في جعبته أي جزرة، فقط بقيت في يده عصا غليظة، لا مجال ولا وقت للترغيب بل هو الترهيب والوعيد والتهديد، وإذا كانت العلاقات الدولية تقوم على المصالح المشتركة والمنافع وهذا بين الأنداد والدول ذات السيادة المستقلة، الدول التي عصمتها بيدها ولها سيادتها وقرارها، أما تلك التي دخلت بيت الطاعة على الطريقة القبلية فإنها قد تعودت وتطبعت على أن تكون كتلك الدمى التي تظهر للأطفال فتسطر لهم بطولاتها وتتحرك في خيالهم بمشاعر الشجعان، بينما واقع حالها مجرد دمى، هكذا يظهر الزعيم على تلفازهم الرسمي بطل الأبطال، القائم بكل النجاحات والإنجازات والمناطح لكل السياسات الغاشمة والطامعة ببلاده، بينما في الحقيقة هو مجرد دمية تحركها خيوطهم، وحتى حضرات الأطفال المشاهدين يكتشفون اللعبة هذه الأيام ويعلمون كيف تتحرك أمامهم دون عناء.
هي سياسات معتادة وهي مسار طويل من الاعتماد الكامل في السياسة والاقتصاد وكل شيء، وضعوا أنفسهم في منزلة الذيل، وأفرغوا رؤوسهم من التفكير الحر وطريقة النظر والتخطيط وصياغة السياسات التي تنهض بشكل مستقل وتصنع لنفسها رقما صعبا في المنطقة، وهذا ممكن، إذ هناك من القدرات والموارد البشرية والمادية ما هو قادر على صناعة الذات المستقلة، ولكن قيام هذه الدول على الولاءات وتنحية الكفاءات خوفا على سدة الحكم ودوامها للزمرة الحاكمة يجعلها بأشد الحاجة إلى ولي أمر تأتمر بأمره وترتمي بحضنه وترى أنه شريان حياتها الذي لولاه لطارت عروشها ولما دامت لها كراسيها.
ومنذ أن أنشئت مدن الملح هذه على رأي الروائي عبد الرحمن منيف في رواياته الشهيرة "مدن الملح" وهي تقيم اعتمادها الكامل على المستعمر، هناك معادلة من طرفين: طرف يصل إلى كل مصالحه من بترول وأسواق مفتوحة له ودوران سياسي في فلكها، ومن غير أن يضطر إلى خوض الحروب وممارسة الاستعمار المباشر بل يصل إلى هدفه دون حرب ودون أي قطرة دم من خلال وكلائه الأشاوس الذين يحكمون وبيدهم رقاب الناس.
والطرف الثاني من المعادلة يأتي وفق حسبة خاصة لا تراعي إلا حفظ دوام الحال، لكم ما تريدون منا ونحن علينا توطئة الناس والهيمنة الكاملة على أنفاسهم وأرزاقهم، لا هم يشبعون فينشدون الحياة الحرة الكريمة وحقوقهم في وطن حر كريم، ولا يتضورون جوعا فيثورون ويطلبون تغيير الحال، تساس الناس بسياسة العصا والجزرة ورفع الموالي وسحق المعارض، وتشكل طبقة بيدها الأمن والصولجان وغنى الحال، وطبقة واسعة عريضة مسحوقة ومغلوب على أمرها، مقيدة محاصرة محكومة بالحديد والنار، بالزنزانة والسجن أو النفي والتشريد والإقصاء.
ومن هنا عندما نرى هذه الدول تسارع في التطبيع مع كيان هو الألد عداوة للأمة وشعوبها، وعندما نتساءل عن مصالح هذه الدول وما الذي تجنيه من هذا التطبيع المقيت لا نرى إلا أنها فقط تطيع أوامر أسيادها، دول فقط رضيت واعتادت على الاستحمار من قبل المستعمر ولا تملك أن تعارض أو حتى أن تناقش أو حتى كما كان سابقا أن تعطى حق الحفاظ على ماء الوجه أمام شعوبها، أو حتى أن تحقق للمستعمر ما يريد في السر من غير الجهر والفضيحة على الملأ وأمام أعين الإعلام.
لا بد أن تدرك الشعوب المؤمنة أن معانقة الشيطان خطيئة ما بعدها خطيئة، وأن تحقق وزنا لها بعد أن تتحرر من حالة انعدام الوزن عند حكامها، لا بد أن يعرف الاستعمار أن هناك شعوبا وأن ينظر إلى المنطقة العربية ليس فقط على أنها حكام وبترول وثروات ومواد خام بل يرى أيضا الشعوب، ويبقى سؤال: كيف ومتى تلعب الشعوب دورها وتثبت وزنها في المعادلة المحلية والدولية؟؟