فلسطين أون لاين

​الشهيد أبو هميسة مقاومٌ عسكريٌّ سلميٌّ

...
الشهيد جبر أبو هميسة
غزة - هدى الدلو

في غزة وفي أي وقت، أنت معرَّضٌ لتفقد أحد أفراد العائلة، بسبب طبيعة الحالة الغزية المتأرجحة بين الحرب والتصعيد، وشيء من راحة السلم، لذا كان الاجتماع الأخير لعائلة أبو هميسة بأكملها حول سفرة الغداء أول من أمس الجمعة، قبل أن يرتقي ابنها جبر شهيدًا.

تناول جبر طعامه على عجالة من أمره، ونهض يعدُّ العدَّة والأدوات التي سينقلها، قيامه لفت أنظار عائلته التي ما زالت تتناول الطعام، وأحدهم أوقفه للحظات: "مالك مستعجل؟ اتغدى منيح"، فرد عليه: "لا، الحمد لله شبعت.. عندي شوية شغل".

وخرج جبر ويعد نفسه، وحمل بعض المعدات وابتعد بضعة أمتار عن البيت، حتى وقع انفجار، وعلى ما يبدو أن أسلاكًا يحملها أحدثت خللًا، ليرتقي شهيدًا، "فلسطين" تروي قصة الشهيد جبر أبو هميسة (27 عامًا) من سكان مخيم البريج وسط قطاع غزة.

عدنان شقيقه الأكبر يقول: "عندما سمعت العائلة صوت الانفجار، كان أول من وصل إلى مكان الحدث والدنا، الذي شاهد فلذة كبده ملقى على الأرض، وقد مسح الانفجار ملامح وجهه"، ليقف الأب المكلوم مصدومًا، ولم يستطِع فعل شيء أمام هذا المشهد الفظيع، ويصاب بحالة هستيرية، ولحق به عدنان الذي سارع لإحضار بطانية وتغطيته قبل تجمع الناس حوله.

وقد أعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة عن استشهاد جبر في حادث عرضي لم تعرف أسبابه دون وقوع أي إصابات، وهو الحادث الذي سبق بدء فعاليات مسيرة العودة الكبرى وكسر الحصار في جمعتها الحادية والثلاثين بعنوان (غزة صامدة ولن تركع).

قال عدنان: "من حسن الحظ أن والدتي لم تكن في البيت عندما علمنا بخبر استشهاده، فهو من كان يعينها في كثير من الأعمال البيتية، ويساعدها في بعض المهام"، مضيفًا: "رغم أن جبر ليس أخي الذي يليني مباشرة، ولسنا متقاربين في السن، ويفصل بيننا ثلاثة إخوة، إلا أننا كنا متقاربين من بعضنا، ومخي راكب على مخه، فكان ذراعي اليمنى".

وتحدث أخوه الصغير محمد (12 عامًا) بصوت متقطع ومختنق بسبب البكاء: "كان حنان جبر مشابهًا تمامًا لحنان والدي"، لكنه لم يستطِع الحديث بأكثر من هذه الجملة، لتعود دفة الحوار إلى عدنان مجددًا.

جبر أحد عناصر المقاومة في كتائب المجاهدين، مرابط ليلًا، سلميّ نهارًا، ويشارك في فعاليات ومسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، كما أنه كان ينقل مجاهدي وحدة الإرباك الليلي، ويساعدهم في أعمالهم، وإحداث حالة من الإرباك والإزعاج لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، فكان لم يألُ جهدًا في أي شكل من أشكال المقاومة، فله أثر في كل مشاركة.

وتابع أبو هميسة حديثه: "كنا نتوقع خبر استشهاده في أي وقت، وأنه سيأتي اليوم الذي سنفقده ولن يكون بيننا، ومع ذلك لم نثنِه يومًا عن المشاركة في مسيرات العودة، وكان محافظًا ملتزمًا في المشاركة، فالأمر واجب علينا، ويجري في شراييننا وعروقنا كالدم، من أجل الدفاع عن الأرض والحقوق المسلوبة، وكنت دائمًا أشد على يده للمشاركة وعدم التقاعس، فأيًّا كانت آلية المقاومة تبقى وسيلة للدفاع".

بالأمس وبعد استشهاده، فتحت عائلته الدولاب الخاص به، لتتفاجأ بورقة مكتوبة بخط يده حُشرت بين مقتنياته الخاصة، وقد عنونت بـ"الوصية"، كتبها باقتضاب شديد، لم يطلب شيئًا سوى صبر أهله على فراقه، واحتساب أجرهم عند الله، وإذا كان عليه دين أن يرد لأصحابه.

وطالما تمنى الشهادة وعمل من أجل هذا اليوم، فعرف بين أهله وأصدقائه وجيرانه بحسن الخلق، "فكان صيته وسمعته مثل الليرة الذهب، ليس عليها أي غبار، ولديه لباقة في التعامل مع الناس، ويحترم من هو أكبر منه، ويعرف حقوق ربه وحقوق عباده، ويسعى لعدم التقصير بهما"، وفق قول أخيه أبو هميسة.

وأكمل حديثه: "كما أنه كان عسكريًا فذًا، وجمع بين العمل العسكري والسلمي، مع أني نصحته كثيرًا بالابتعاد عن العمل الذي يتطلب دقة، ويحمل درجة عالية من الخطورة، كبعض المعدات، والأدوات، ولكنه في كل مرة كان يؤكد لي أن العمر واحد والرب واحد، فلا نفر من قدر الله إلا إلى قدر الله".

بعد استشهاد جبر يشعر عدنان بحالة من الضياع، فمن له بعده سندًا ومتكأً؟ فهل سيستطيع أن يعتمد على أحد غيره؟