تناول القضايا السياسية هذه الأيام على الغالب يذهب إلى التصنيف إما أبيض أو أسود خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، ينحاز الناس خاصة من هم في مرحلة المراهقة الفكرية والسياسية بقوة مع أو ضد وعلى قاعدة عنزة ولو طارت، ويذهبون الى التقديس والتعلق القلبي الكامل عشقا وحبا لمن يمثل وجهته وينطلقون من عكس القاعدة تماما: "اعرف الحق تعرف أهله".
فالفرز أولا هل هو معي أو مع حزبي وجماعتي أم ضدي وضد جماعتي ثم نكمل بعد ذلك دون النظر في ما صدر عنه من قول أو فعل أو موقف سياسي .. وافقناه وأنزلنا عليه بركاتنا وكل خيرات مدحنا وتبجيلنا وجعلناه نورا وشمسا تضيء العالمين وتبدد ظلمات الجهل، لتجعله نهارا ساطعا كالشمس في رابعة النهار .. والويل ثم الويل إن كان من معسكر مخالف عندئذ أسقطنا عليه كل تقريعاتنا وأخرجنا له من قاموسنا الأسود ما يليق به، أطلقنا عليه وابل رصاصنا وجعلنا منه شيطانا رجيما ليس له إلا أن نتعوذ منه ومن آرائه الظلامية الضالة المضللة.
من المصيبة بمكان أن نعتقد أن هناك عصمة في السياسة وهناك من لا يخطئ أبدا فهو الملهم الموهوب الذي يجيد اللعب ويتقن التهديف مائة بالمائة كما وصف عالم أحد الأمراء على أعظم منبر ديني بأن هذا الأمير "المحدَّث - بفتح الدال - الملهم" لم يبق إلا أن يصفه بأنه وحي يوحى، وحتى إن لم نستمع الى مثل هذا الوصف الفاضح فإننا بالممارسة والفعل نجد ذلك، نجد الزعيم على أنه فوق التفكير البشري عند زمرة من العلماء والمطبلين من إعلاميين ومحللين، وعلى الرغم من رؤية العالم لهذا الملهم بأنه أقل ما يقال فيه: غير ناضج سياسيا وسفيه وطائش ومتفرد ومتسلط ومتهور وهو أقرب لتحقيق مصالح من يواليهم على مصالح شعبه، وعند النخبة التي رعاها ورفعها وجعلها على السطح هو الملهم الموهوب. هي سياسة التقديس البعيدة كل البعد عن النقد والتصويب ورؤية الصواب من الخطأ.
على الساحة العربية هناك من ينظر الى أردوغان مثلا نظرة وردية جميلة لا تشوبها شائبة ولا يمكن أن يقع في أي خلل أو أن لا تحالفه قمة الصوابية في موقف سياسي ما.. وكذلك ينظر الى السياسة التركية هذه الأيام، وهناك العكس تماما لا يرون فيه إلا حلف شمال الأطلسي ويقيم علاقات رسمية مع دولة الاحتلال ... الخ فهو في نظرهم شيطان رجيم.. وعلى الساحة الداخلية في المواقف السياسية هناك من لا يرى الأمور إلا بعد أن يلبس نظارة زهرية مثل نظارة الأطفال ليرى المشهد الوردي لمن يحبهم، ويلبس السوداء ليرى المشهد الأسود لمن لا يحبهم فلا يرى فيهم إلا قبحا وسوادا ولا يرى لأي رأي سياسي من آرائهم أي وجاهة أو قبول.
والنظر في التاريخ أيضا يمرره ويمرر علماؤه وحكامه عبر هذه النظارة أو تلك، وكان آخر ما سمعت عن لقاء ثقافي تناول شخصية العالم ابن تيمية وكان لأحدهم أن يلبس نظارته السوداء فلا يرى أي خير عند هذا العالم بل الشر المطلق .. أوصل بنا الى هذا الحد في النظر الثنائي الحاد؟؟
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لا تكاد تجد من المواقف والآراء إلا ما تناولته العيون بالنظارة الوردية أو العكس تماما بالنظارة السوداء، وعند رؤيتهم لموقف موضوعي يرى بقية الألوان، يؤيد في أمور وينتقد في أمور أخرى لذات الشخص أو الجهة أو الدولة أو الجماعة فتجدهم يذهبون الى النقيض بطريقة خالية من أي تفكير علمي أو موضوعي.. إن انتقدت دولة تجدهم يسارعون: لماذا لم تنتقد الدولة التي لا تروق لهم .. واذا عارضت قتل شخص بطريقة مروعة كما حدث مع خاشقجي فإنك عندهم أدرت الظهر لملايين الضحايا التي عليك أن تتحدث عنها قبل حديثك عن هذه الحادثة!!
إننا بأشد الحاجة الى الموضوعية، وأن نشخص الأمور كما هي ثم نطرح المعالجات التي نراها الأقرب الى الصواب والتي قد نصيب فيها وقد نخطئ .. نرى الصواب الذي يحتمل الخطأ وعند مخالفينا الخطأ الذي يحتمل الصواب ولا يوجد هناك من هو مصيب دائما أو على الخطأ دائما بل كلنا نصيب ونخطئ، أفرادا ودولا وعلماء ومفكرين وحركات وأحزابا..