حاول الاحتلال الإسرائيلي بمستوييه السياسي والعسكري كثيرًا تعطيل قطار مسيرة العودة الذي انطلق بقوة نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، واستخدم في سبيل ذلك أساليب متنوعة لإزاحته عن سكته التي رسم الفلسطينيون معالم طريقه ليصل بهم في النهاية إلى تحقيق حلم العودة إلى الأراضي المحتلة عام 1948 وكسر الحصار المفروض على القطاع منذ 12 عامًا.
ولجأ الاحتلال إلى استخدام قوة مفرطة ضد المشاركين في فعاليات العودة، أوقعت حتى اليوم نحو 200 شهيد وآلاف الجرحى، وأرفق سلوكه الدموي ببث "حرب نفسية" تتضمن رسائل تهديد ووعيد بعدوان جديد على القطاع على غرار عدوان 2014م إن استمرت المسيرة، وحين أدرك عجزه عن مواجهتها لجأ إلى أسلوب "الترغيب" بالحديث عن نيته تخفيف الحصار في مقابل وقف الفعاليات على الحدود الشرقية لقطاع غزة.
لكن كل تلك الأساليب بحسب ما يرى مراقبون فشلت في إحباط المسيرات، فلا الوعود الكاذبة بتخفيف الحصار انطلت على الشعب، ولا القوة استطاعت إيقاف المسيرات التي تتصاعد بشكل أكبر من السابق، وباتت لها آثار سياسية على المستويين المحلي والدولي.
ويقول المراقبون إن تلك المسيرة أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية، ووضعت قضية حصار غزة على الطاولة، وواجهت صفقة القرن، عادين استمرار فعالياتها على مدار 30 جمعة متتالية دون تراجع، دليل قوتها، وفي المقابل تؤشر إلى عجز وضعف الاحتلال على مواجهتها.
واقع جديد
ويستعرض الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم المدهون أساليب الاحتلال في محاولة إحباط مسيرات العودة، أولها برفع وتيرة التهديدات منذ انطلاقها وتعزيز الوجود العسكري لجيشه على طول الشريط الحدودي مع القطاع، وقتل نحو 200 شهيد، وإصابة عشرات الآلاف، والضغط سياسيًّا وعسكريًّا وقصف مواقع للمقاومة، وبث الإشاعات والأخبار الكاذبة، كذلك حاول الترغيب ببعض الوعود في حال توقفت المسيرة، والتي لم تكن وعودًا جدية.
ويقول المدهون لصحيفة "فلسطين"، إنَّ كل تل الأساليب فشلت، ونجحت المسيرات بعدة اتجاهات، الأول الاستمرار في فعالياتها، والثاني فرض واقع جديد على الأرض، بحيث أصبحت المناطق الحدودية تمتلئ بالحياة والسكان بعدما كانت مناطق عازلة يمنع اقتراب أي شخص منها، والاتجاه الثالث أنها أحيت قضية حصار غزة، وواجهت مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتصفية القضية الفلسطينية من خلال ما تعرف بـ"صفقة القرن".
وثمة عدة عوامل دفعت باتجاه تصاعد المسيرات، وفق المدهون، الأول تهديدات الاحتلال التي استفزت أبناء الشعب الفلسطيني، والثاني زيادة الإصابات وأعداد الشهداء مما ولد حالة ثورية لدى الشباب الفلسطينيين.
والعامل الثالث أن المسيرة باتت تقلق الاحتلال ولها آثار سياسية على المستويين المحلي والدولي بإعلاء القضية الفلسطينية، فضلًا عن اقتناع الشباب الثائر بأن المسيرة يمكن أن تؤدي لكسر الحصار في ظل حالة من انسداد الأفق السياسي، فأصحبت المسيرة وسيلة لإعلاء الصوت الفلسطيني، كما يضيف المدهون.
ويرى المدهون أن المسيرات جرأت الشباب الفلسطيني على مواجهة الاحتلال، وباتت تشكل هاجسًا لديه، إضافة لما أفرزته من نتائج سياسية كبيرة، مبينًا أن أكثر ما يخيف الاحتلال هو أن الشعب الفلسطيني كسر حاجز الخوف، ولا أحد يستطيع إيقافه، فبات قادة الاحتلال متخوفين من سيناريو اجتياز الآلاف للحدود الفاصلة مع قطاع غزة، أو أن تتطور المسيرة وتنتقل نقلات نوعية أخرى، وهو أكثر ما يقلق الاحتلال "إلى أين يمكن أن تصل المسيرة؟".
إرباك واتهامات
هل تؤرق مسيرات العودة قادة الاحتلال؟ في رده على السؤال السابق، يوضح المختص في الشأن الإسرائيلي فرحان علقم، أن هناك حالة إرباك تظهر من خلال التراشق الإعلامي وتبادل الاتهامات بين أعضاء حكومة الاحتلال بشأن عجزهم على مواجهة مسيرات العودة ووسائلها الإبداعية كالطائرات الورقية والبالونات الحارقة، وتمكن الشباب من اجتياز السياج الفاصل والدخول إلى الأراضي المحتلة منذ عام 1948.
لذلك برزت دعوات إسرائيلية أكثر من مرة بضرورة تخفيف الحصار، وحل المشكلة الإنسانية في قطاع غزة كمحاولة لإضعاف وتيرة المسيرات بعد فشل محاولات قمعها بالقوة، وفق علقم.
وبشأن تعامل الاحتلال مع المسيرات، ذكر علقم لصحيفة "فلسطين"، أن الاحتلال استخدم أكثر من طريقة في ذلك، أولًا بتفعيل نداءات المجتمع الدولي بحل المشكلة الإنسانية في القطاع، فحاول أن يوهمهم أنها مشكلة إنسانية وحصر الأمر في هذا الجانب، بل خرجت أصوات إسرائيلية تنادي بتخفيف الحصار –حينما كانت السلطة الفلسطينية برام الله تتوعد القطاع بعقوبات جديدة-، مبينًا أنَّ كل هذه الدعوات كانت محاولات من الاحتلال للالتفاف على مسيرة العودة.
وفي معرض رده على سؤال: "كيف يمكن أن تضغط المسيرات على الاحتلال للاستجابة لمطالب المسيرة؟"، يرى أن "العنجهية الصهيونية" تغري قادة الاحتلال للاستمرار في بطشهم وعدم التنازل أو الاستجابة لمطالب المسيرة، معتقدًا أن الاحتلال لم يكن صادقًا في التعاطي مع الجهود المصرية والأممية بتخفيف الحصار وإنعاش الاقتصاد الغزي.
ونبه إلى أن الفصائل الفلسطينية عندما أبدت مرونة بموضوع تثبيت وقف إطلاق النار بمستوى معين، حاول الاحتلال الاستفادة من ذلك، بتحقيق بعض الهدوء، ثم عاد وتنكر لما كان قد استجاب له بتخفيف الحصار، متوقعًا أن تحقق المسيرات أهدافها بكسر الحصار إذا استمرت فعالياتها الضاغطة.

