نهارٌ كانوني آخر شديد البرودة كما هي عادة طقس مدينة توزلا (شمال شرق البوسنة) في فصل الشتاء، كلٌّ يترقب حلول ساعات المساء للعودة إلى منزله والاستمتاع بمذاق المعشوقة السوداء قرب مدافئ النار الموقدة بالجمر الأحمر.
وعندما جن الليل بدا صمت القبور يلف شوارع المدينة الجبلية بعد تدني درجة الحرارة إلى ما دون الصفر، وخيم الظلام على الأرجاء بفعل العواصف الرعدية، إلا أن ضوءا خافتًا أصفر الشعاع كان يتسلل من وراء نافذة تطل على أحد الشوارع الجانبية لحي (Jure Kerosevica).
خلف تلك النافذة الزجاجية كان الشاب "جاسينكو دوردفيتش" يجلس وراء مكتبه، مستكشفًا بعينيه اللوزيتين هيئة قلم رصاص من الأعلى إلى الأسفل، سائلًا نفسه: "كيف سأنحت على رأس هذا القلم تمثالًا متناهي الدقة، ما يؤهلني إلى دخول موسوعة (جينيس) والفوز بتحدي شقيقي؟".
لم يدم تأمل دوردفيتش للقلم طويلًا، فسرعان ما أمسك سكينًا وإزميلًا صغيرًا بارد الملمس، وراح ينحت بحذر فيما يشبه الحركة البطيئة في أفلام السينما القديمة على الرأس المدُبب، المحاولات العشر الأولى فشلت، وكذلك الثانية عشرة لم يكتب لها النجاح التام، أما المحاولة التالية فقد جاءت بالخبر السار على أعتاب السابعة صباحًا.
في صباح ذاك اليوم الثلجي 28 كانون الأول (يناير) 2010م أعلن الشاب الثلاثيني بملء فمه أنه نجح في صناعة منحوتة من أسنان أقلام الرصاص، ذات حجمٍ صغير وتفوق دقةً مثيلاتها من أعمال أشخاص قلائل يمتنون إلى ذلك الفن، ثم قال بلغته البوسنية: Artssss mmad""، أي: "الفنون جنون".
"فلسطين" ألقت منتصف الشهر الجاري تحية الصباح على الشاب البوسني بعدما تعثرت بموقعه الإلكتروني، وبعد دردشةٍ "فيسبوكية" عن بداياته وتفاصيل محاولاته الأولى اتفقا على حوار مترجم أكثر تفصيلًا عبر نافذة "البريد الإلكتروني"، لتتعرف إلى مسيرته الفنية، وبماذا تحدى Jasmin شقيقه جاسينكو؟، وهل انضم إلى الموسوعة العالمية؟، فكونوا بالقرب.
تعلم ذاتي سبقه إعجاب
استهل ضيفنا حوارنا معه بإرسال أمنياتِ السلام والمحبة إلى فلسطين المحتلة وأهلها، ثم قدم بطاقة تعريفية أوجزها بقوله: "ولدتُ عام 1983م في مدينة توزلا، وفيها أنهيتُ دراسة المراحل التعليمية الأولى، أعملُ حاليًّا مدربًا للفنون في مدينتنا، مع أني لم أدرس أي تخصصٍ يتعلق بالفن خلال الجامعة، إنما هو تعلم ذاتي".
وإن لم يدرس دوردفيتش الفن أكاديميًّا؛ فلابد من سر مكنه من إتقان الفن ومنافسة أكبر النحَّاتين العالميين لاحقًا، وعلى ذلك يعلق: "منذ أن كنتُ طفلًا تبهرني وتجذبني الأجسام والأشياء الدقيقة، فذات مرة عملتُ أنموذجًا لقاربٍ ورقي أبعاده 1.5ملم × 2.5ملم، وسعة القارب كانت نحو 1ملم3 فقط".
ويضيف: "تعرفتُ إلى فن الميكروأورجامي، وأصبح لدي اهتمامٌ أكبر بالفنون الدقيقة في الرسم الجرافيتي والنحت حتى أتقنتها ثم تطور الأمر إلى أن أتقنت نحت الأجسام الصغيرة جدًّا"، مشيرًا إلى أن هناك بضعة أشخاصٍ على مستوى العالم كله يتقون ذلك الفن، في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا.
"أخبرتك أنني أستطيع" تلك الرسالة التي بعثها الفنان جاسينكو إلى شقيقه Jasmin، بعدما أنجز نحتًا على الرصاص يفوق في دقته عمل فنان أمريكي بعثه له شقيقه بصورة، وتحداه أن يفعل مثله، وكان ذلك قبل سبع سنوات من الآن.
و"لماذا اخترت فن النحت على رؤوس أقلام الرصاص؟" عن ذلك السؤال يجيب: "استخدم قلم الرصاص طوال العصور الماضية أداة فنية، أما أنا فأردت أن أجعله نفسه لوحة فنية أنحت على أسنانه الهشة بطبيعتها تماثيل صغيرة جدًّا مختلفة الأفكار والأشكال، مع ما تحتاج له من وقت وجهد كبيرين جدًّا".
حذر
ويلجأ دوردفيتش إلى استخدام أدوات عادية في مهمة تحويل الأقلام إلى تماثيل متناهية الصغر كالسكين والمبرد الخشبي والإزميل الصغير، وأيضًا يستخدم عدسة مكبرة لتفحص خطوات العمل أولًا بأول، إضافة إلى ذلك إنه ينجز أعماله المعقدة بمفرده دون أي مساعدةٍ خارجية، فحبه للفن هو المحفز الأكبر له، حسبما يؤكد.
ويختلف الوقت الذي يستغرقه الشاب الثلاثيني في إنجاز عمله حسب تعقيده ودقة تفاصيله، ولكنه يحتاج بالمتوسط إلى قرابة عشر ساعات من العمل المتواصل كي يُنجز الشكل العام للمجسم أو التمثال الذي يرغب في نحته، ثم يومَي عمل آخرين لإنهاء كل التفاصيل الدقيقة، وتُعد عملية تفحص جسم القلم الرصاص الخطوة الأولى والأهم قبل الشروع بأي عمل.
ويؤكد دوردفيتش أن دقة النحت أو التمثال تتوقف على طبيعة لب قلم الرصاص، ويقول: "أستخدم قلم الجرافيت عادة، فنصف قطره الذي لا يزيد على 4 ملم يمكنني من الحصول على تفاصيل أكثر للمنحوتة، أما دقة المخرج النهائي فتعتمد على جودة الشركة المنتجة لقلم الرصاص المستخدم، على ألا تزيد الدرجة على H5".
يضيف: "الرصاص الأسود (الجرافيتي) الذي أنحته هو مادة ضعيفة البنية ليست صلبة، ولهذا أنحته بحذرٍ وبغاية الدقة، لئلا أزيد في النحت على ميليمتر واحد فقط؛ فلو زدت على هذا القدر فإن العمل سينكسر على الفور، فأصغر خطأ أو سهو يمكن أن يتسببا بتشويه العمل وتخريبه كليًّا".
ويدور في عقل المرء: "ماذا لو انكسر سن القلم في أثناء مشارفته على انتهاء العمل؟"، لابد أن ذلك حدث معه مرارًا، ليكرر المحاولة دون ضجر؛ فمن الإصرار على التكرار نتعلم الصبر بنسخته الأصلية.
إنجازات ومعارض
المدهش في الأمر أن الفنان البوسني يتحدى ذاته كل مرة بتجهيز عمل نحتي أصغر في الحجم وأدق في التفاصيل من سابقه، غير واضع (فيتو) على أي فكرة يريد تنفيذها، فإن أراد نحت شارة النصر على طرف قلم رصاص فعل، وإن سعى إلى تصوير وجوهٍ بشرية أو حيوانات نقش وأدهش، لتبدو أعماله بهيئة حجر أو خشب متفحم.
وعند الانتقال إلى محور جديد للحديث عن إنجازات دوردفيتش في النحت وتجهيز التماثيل الفائقة الدقة؛ تظهر في أجوبته لمسة عتابٍ للمسؤولين في البوسنة والهرسك كونهم "لا يتذوقون الفن الذي يتقنه"؛ فشهرته بدأت من خارج حدود دولته، ولاحقًا عرف الجمهور المحلي مكانته.
وفي منتصف عام 2011م أنشأ موقعًا إلكترونيًّا وصفحات على منصات التواصل الاجتماعي، سخرها لنشر صور منحوتاته المتنوعة، الأمر الذي دفع العديد من المؤسسات والمعاهد الفنية الأوروبية إلى دعوة دوردفيتش للمشاركة في معارضها، فضلًا عن تنظيمه خمسة معارض فردية.
إنجازات الفنان الشاب التي وصلت إلى قرابة 200 مجسم منحوتة على لب قلم الرصاص، طوال السنوات السبع الماضية؛ دفعت الجهات الرسمية في دولته البوسنة والهرسك إلى جعل ضيفنا ممثلًا رسميًّا لها، في العديد من الملتقيات والورش التي نظمت في إنجلترا والنرويج وألمانيا.
ومن أجوبته وعبر الصور المنشورة على الشبكة العنكبوتية كان بالإمكان أن نتصور رد فعل الجمهور وهو يشاهد أعمال دوردفيتش في المعارض الخارجية والداخلية: العشرات وربما المئات يتوافدون إلى قاعة العرض، يحدقون النظر في لوحاته، ومن أراد التمعن أكثر بتفاصيل النحت استخدم عدسة مكبرة، وبعد ساعات من التجول في أركان المعرض يخرجون وعلامات الإعجاب تعلو قسمات وجوههم متسائلين: "كيف حدث هذا؟!".
يوجد بضعة فنانين يتخذون أسنان أقلام الرصاص مادة لنحت أعمالهم، لكن ضيفنا تميز منهم بصغر تماثيله التي لا تكاد ترى تفاصيلها الداخلية بالعين المجردة، وعلى إثر ذلك حاول الدخول إلى موسوعة (جينيس) للأرقام القياسية، لكن الرد جاءه بالاعتذار كونه لا يوجد لديهم تصنيف خاص بأعماله.
الفن أقوى من الحرب
ويتابع في حواره مع "فلسطين": "مازالت الكثير من أعمالي تعرض دائمًا في متاحف دولية ببريطانيا وروما، وأقدم أعمالًا أخرى لمؤسسات إنسانية لتسخر ريعها في خدمة ضحايا الحروب بالشرق الأوسط، كتمثال الطفل السوري إيلان كردي، الذي أنجزته بعد يومين من غرق الطفل في البحر في أثناء محاولته الهروب مع عائلته من أتون الحرب إلى أوروبا قبل نحو عام".
وعن عمل الطفل السوري يتحدث دوردفيتش: "المشهد المرعب لإيلان وهو ملقى جثة هامدة على شاطئ البحر أيقظ لدي الرغبة الشديدة في التنبيه إلى حال المناطق التي تشهد حروبًا عنيفة، إذ سعيتُ أن أذكر العالم وأنبه الناس أن الأطفال لا قدرة لهم على تحمل الألم والمعاناة بسبب بعض الألعاب التي تلعبها الدول الكبرى".
ويعلق: "شعرت بالحزن الشديد عندما رأيت صورة جسد إيلان الخالي من الحياة ممددًا على رمل البحر، هو طفل مات ظلمًا لن يفيده التمثال الذي نحته له، لكن على الأقل سيعرف الآخرين ببشاعة الحرب الجارية هناك منذ سنوات"، مؤكدًا أن الفن يمكنه أن يغير الكثير.
وكان لواقع الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي دور في استخدام الفنان الثلاثيني هوايته في التوعية الاجتماعية، ولفت أنظار العالم إلى المآسي الإنسانية الجارية حولهم، يقول: "عايشت قبل 20 عامًا لحظات الذعر والرعب اللذين يعيش فيهما أطفال سوريا، وكذلك أنتم أيضًا في فلسطين العزيزة".
وخلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2012م عمل ضيفنا على إنجاز منحوتة "P A L E S T I N" التي عرضتها لاحقًا في روما المؤسسات الإنسانية التي تعمل لدعم ومساعدة الأطفال الفلسطينيين، مثلما عرضت المجسم الذي نحته للطفل إيلان إحدى منظمات حقوق الإنسان التي تنشط في النرويج.
ويأمل دوردفيتش في ختام حديثه لصحيفة "فلسطين" أن ينشر رسالة السلام في العالم عبر منحوتاته؛ فهو يرى أن "الفن أقوى من السيف والرصاص"، قبل أن يشير إلى أنه يطمح إلى إضافة أوسمة جديدة لرصيده، بعدما حصد جائزة "النحت"، ونال المركز الأول بمسابقة (جراند بريكس) للأعمال المتناهية الصغر حول العالم.