جرت العادة أن يكون العسكر أكثر اندفاعا من الساسة في الذهاب إلى عمليات قتالية أو حروب ميدانية، على اعتبار أن تفكيرهم يكون مركزا نحو الأداء العملياتي والإمكانيات الحربية، وهناك العديد من الأمثلة والنماذج التي تؤكد هذه الفرضيات..
لكن الحالة الإسرائيلية الآنية، تبدو مغايرة لما درسناه وخبرناه في نماذج إقليمية وعالمية، ومنها نماذج إسرائيلية في سنوات وعقود سابقة، حين كانت تبدو إسرائيل ذات قدرات تسليحية تفوق بأضعاف مضاعفة ما لدى أعدائها العرب والفلسطينيين.
اليوم أمام الوضع الأمني المتدهور في قطاع غزة، ففي الوقت الذي تشهد فيه الحدود توترات أمنية، تتصاعد وتتراجع، حسب الوتيرة السياسية، فإن الجبهة الداخلية الإسرائيلية، لاسيما داخل الحكومة والمجلس الوزاري المصغر ودوائر صنع القرار، تشهد ذات التباينات من تصاعد المواقف وتراجعها، وتسخينها وتبريدها.
يظهر في قلب النقاش الدائر داخل الحكومة الإسرائيلية حول غزة شخصية قائد الجيش رئيس هيئة الأركان غادي آيزنكوت، الذي يمتلك نفوذا وتأثيرا لا تخطئه العين على جميع الوزراء، بما فيهم رئيسهم نتنياهو، من حيث قدرته على الصمود في وجه الضغوط والمزاودات والحناجر المتصاعدة المطالبة بتوجيه ضربة عسكرية لحماس في غزة.
ينظر الإسرائيليون عموما إلى الجيش باعتباره "البقرة المقدسة" التي لا يجب أن يطالها النقد والاتهام بالقصور والتراجع، وهم في سبيل ذلك يفتحون قاموس الشتائم باتجاه الحكومة: رئيسا ووزراء وأعضاء كنيست، فهذا جبان، وذاك متردد، وذلك له حسابات انتخابية، وهلم جرا.
عند الجيش تتوقف هذه الاتهامات، رغم وجود بعض المطالبات بالرد على غزة، ورفع كلفة المواجهة تجاهها، لكن دون أن يتجاوز هذا المطلب توجيه الاتهام والتجريح، حتى حين تجرأ الرئيس السابق للائتلاف الحكومي ديفيد بيتان على رئيس الأركان، واتهمه بإعاقة تنفيذ عملية عسكرية ضد حماس في غزة، حظي الأخير بغطاء كبير من قادة الدولة، لما يمثله من مكانة كبيرة داخلها.
يحظى آيزنكوت المسمى "الكلب الذي يعض ولا ينبح"، باحترام وتقدير كبيرين من مختلف دوائر صنع القرار في إسرائيل، نظرا للسجل الحافل الذي قدمه خلال السنوات الأخيرة، لا سيما في مواجهة الوجود الإيراني في سوريا، وضرب القواعد الإيرانية فيها بما يزيد عن مائتي غارة في قلب الأراضي السورية، وصولا إلى استهداف قوافل الأسلحة المتجهة من سوريا إلى لبنان حيث حزب الله، وانتهاء بمكافحته لمشروع الأنفاق على حدود غزة، وتسجيله لنجاحات ترى بأم العين.
لا يغفل الساسة الإسرائيليون وأوساط الرأي العام في إسرائيل هذه "الإنجازات" الممهورة بتوقيع آيزنكوت، وهم ينتظرون منه ردا على مسيرات غزة وصواريخها، في ظل ثقتهم بتقديره للموقف، وعدم تجاوزهم أي حدود في مطالبتهم له بالتعامل اللازم مع غزة، ولعله الأكثر دراية بكلفة أي حرب في هذه البقعة المتخمة بالسلاح.