فلسطين أون لاين

المصور "عمر" و"المسنّ".. الإنسانية تطغى على المهنية

...
صورة أرشيفية
غزة/ يحيى اليعقوبي:

على بعد سبعين مترًا من السياج الفاصل شرق محافظة خان يونس؛ جنوبي قطاع غزة، يقف المصور الصحفي الفلسطيني حاتم عمر (39 عامًا) يلتقط صورًا للتظاهرة السلمية من زوايا متعددة، المشهد أمامه.. أناس يتجمهرون، ودخان أسود يتصاعد للسماء، وجنود الاحتلال يطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين وأتبعوها بقنابل غاز كثيف لتفريقهم، اختنقوا، وتراجعوا، نظر عمر حوله ليجد مشهدًا لرجل كبير في السن يكاد يسقط على الأرض من شدة الاختناق (فهو ليس بقدرة الشباب على التراجع للخلف)، صورة لو التقطها ربما "كانت كفيلة بتقديمها بجائزة دولية".

لكن المصور عمر وهو يعمل في وكالة الأنباء الصينية "شينخوا"، تنازل عن الصورة من أجل "إنقاذ روح إنسان كبير في السنّ". تقدم عمر الذي يرتدي درعًا صحفية وخوذة وكمامة واقية من الغاز، نحو الرجل وأمسك بيديه قبل أن يسقط وأسنده إلى كتفه وطمأنه.. "تقلقش يا حج أنا ابنك"، وحمله على كتفه وسار به مسافة 30 مترًا حتى وصل أقرب نقطة إسعاف، وكان الحاج -وهو بالمناسبة من عائلة أبو غرارة ويبلغ من العمر (70 عامًا)- متأثرًا بشدة من قنابل الغاز.

تنازل شجاع

وإن كان مشهد إصابة الحاج بالغاز لم يوثقه عمر؛ لكن مشهد حمله وإسعافه لأبو غرارة وثقته عدسة أحد المصورين الموجودين في المكان، صورة أحدثت تفاعلًا كبيرًا وإشادة بإنسانية عمر. يعود في حديثه لصحيفة "فلسطين" لذلك الموقف من بدايته: "كان الرجل بجواري لحظة إطلاق جنود الاحتلال قنابل الغاز، جميع الناس تراجعوا للخلف، ولم يبقَ سواه".

ما الدافع الذي جعلك تتنازل عن الصورة؟قبل الإجابة عن السؤال (ربما رأينا كثيرًا من الأحداث العالمية في البحر والغابات وثقتها عدسات المصورين وانتشرت على مستوى العالم، مشاهد متعددة منها.. غريق ومصور التقط الصورة فقط)، إلا أن عمر صنع مشهدًا آخر يعترف بإجابته وبدا عليه الافتخار بنفسه: "تنازلت عن الصورة من أجل إنقاذ روح إنسان كبير في السن، لا يمكنني تركه وحيدًا في المكان، قمت بإسعافه بشكل مباشر ونقله للنقطة الطبية".

الإجابة لم تنتهِ.. "تنازلت لأجل روح شخص جاء يحمل روحه على كتفه، تركت صورة جميلة وشيئًا ثمينًا من الممكن أن يفوز بجوائز دولية وعالمية، خاصة أن الرجل كبير في السن ويرتدي ثوبًا فلسطينيًا".

"الصحفي إنسان يعيش ويتعايش مع الآخرين، ما يحدث للمواطنين شرق غزة يحدث معنا نحن الصحفيين؛ أنت إنسان إذا رأيت شخصًا يحتاج إلى المساعدة لا يمكن تركه يفقد روحه. في القانون مهنتك صحفي وليست مسعفًا؛ لكن مرات عديدة تطغى الإنسانية والحس الوطني على المهنة، لا يمكنني ترك الرجل؛ وكل صور الدنيا لا تساوي سقوط رجل كبير على الأرض وأنت شاب يمكنك مساعدته" يقول عمر.

"تفاجأت بوجودي منفردًا في المكان".. يستذكر الموقف؛ ويكمل: "شعرت وكأن الله أرسلني لهذا الرجل لأنقذ روحه، لم يكن المشهد عاديًا.. كانت قنابل الغاز تتساقط بكثافة (ربما كانت إحداها ستصيب جسده)".

"لماذا انتشرت؟"

"لماذا انتشرت الصورة؟"، يسأل عمر ويعتقد في إجابته بأن "الصورة التي انتشرت عن مسيرات العودة، كلها لشهداء، وصور دماء، وبكاء وحزن، فيما كان مساعدته للمسن مشهدًا عفويًا جديدًا يظهر إنسانية الصحفي الفلسطيني".

في اليوم التالي (أمس السبت)؛ الشمس تطل بنورها، ما زال صدى الصورة يتردد، استيقظ المصور عمر وذهب لإعطاء محاضرة في أكاديمية "يوتوبيا"، وصل قاعة المحاضرة وكان أمامه عشرون طالبًا يدرسون الإعلام، ينظر حوله.. يقرأ لافتات مكتوب فيها "الصحفي الإنسان المدرب الناجح.. الرجل الوطني"، لتكون هذه اللافتات "مبادرة جميلة" من الطلاب أسعدت مدربهم و"فاجأته كذلك".

لم تنتهِ الأمور هنا؛ قام أحد الطلبة وقرأ من ورقة أعدها مشيدًا بمدربه؛ خلاصة قوله: "هكذا تكون الصحافة.. العمل الإنساني يسبق الميداني، أنت قدوة لنا".

مواقف كثيرة مشابهة عاشها المصور عمر طيلة عمله الصحفي الذي بدأ عام 2002، يغوص في أعماق ذاكرته ويتوقف عند عام 2004م، يومها كانت قوات الاحتلال تجتاح حي "تل السلطان" غرب محافظة رفح، وكان يعمل لصالح إذاعة محلية (الحرية).

خرجت مسيرة من المواطنين تجاه معبر رفح، استهدفت طائرات الاحتلال المسيرة، كان عمر ينقل المشهد للإذاعة، مستذكرًا: "كنت أحمل الهاتف على أذني وأنقل الرسالة، وفي نفس الوقت أنقل المصابين والجثث مع المسعفين، الجميع كان يستمع لتفاصيل ما أتحدث به وكنت في الواقع أجاهد نفسي في إنقاذ المصابين (..) لم أنسَ تلك الجريمة ولن أنساها في حياتي".