في كلِّ مرة تنتهي تظاهرات الجمعة شرقي قطاع غزة بحصيلة دامية من الشهداء والجرحى؛ نتيجة الاستخدام المفرط للقوة من الاحتلال الإسرائيلي، فيثور الجدل مجددًا على مسيرة العودة الكبرى وجدواها، ما بين مبالغ في أهدافها وما يمكن أن تحققه، ومشكِّك حتى المزايدة في دماء الشهداء والتضحيات إجمالًا.
من واقع مشاركتي في مسيرات الجمع كلها (29 جمعة) منذ انطلاق المسيرة في 30 مارس/ آذار الماضي، وتغطية الانتهاكات التي تتخللها وتوثيقها، ومواكبة المشهد العام حولها، أسجل هذه الملاحظات على طريق قراءة هذا الحراك الوطني الكبير.
- شكلت المسيرة خاصة في بدايتها فعلا وطنيا استثنائيا، أعاد الروح الوطنية، وأعطى دليلا على إمكانية أن يجتمع كلُّ أو أغلبُ الفصائل ومن خلفهم الجماهير على حد أدنى في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وحول مطالب مشروعة (العودة وكسر الحصار).
- استمرار المسيرة وتطوراتها وما تخللها من تضحيات، أظهر استعداد شعبنا رجالا ونساء وأطفالا، شيوخا وصبايا، على العطاء والتضحية، وتوقهم الكبير للحرية وكسر الحصار.
- من يشارك من الجمهور فهو بإرادته الحرة، لا أحد يملك قوة قهرية لدفعهم للذهاب، وإذا ذهبوا لا أحد يملك دفعهم للتحرك نحو السياج الفاصل، حيث تدور التظاهرات أحيانا من النقطة صفر مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يجابه العزّل بقمع وحشي.
- المشاركون من الشبان والصبايا والشيوخ والأطفال بكل انتماءاتهم، ليسوا قطيعا كما يصور بعضٌ، هم الأحرار والثوار ملح الانتفاضات والثورات الفلسطينية كلها.
- مشاهد البطولة، من الفتيات والشباب العزل على خط التماس الأول، واجتياز السلك الفاصل، تشير إلى كسر حاجز الخوف من هذا المحتل، وهي مشاهد متكررة لا يُرهبها البطش الإسرائيلي، ولا حتى التشكيك والمزايدة السياسية.
- وقائع رشق الحجارة والمحاولات المحدودة لإلقاء الزجاجات الحارقة واختراق السياج الفاصل، لا تغير من الطبيعة السلمية للتظاهرة، ولا تعد مبررًا لقوات الاحتلال لاقتراف جرائمها التي تقترفها بقرار من أعلى المستويات العسكرية والسياسية في (إسرائيل).
- رغم تصدر حماس مشهد المسيرة في التنظيم والمتابعة إلى جانب الفصائل المنضوية في الهيئة الوطنية العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار، إلا أنه لا يوجد إجبار منها أو من غيرها لأحد على المشاركة.
- المشاركون في المسيرة متنوعون من حيث الانتماء والنوع الاجتماعي، والمستوى المعيشي، يشكلون فسيفساء المجتمع الحقيقي وليس الوهمي الذي يغرد عبر الفضاء الأزرق أو الصالونات المغلقة المكيفة، وهكذا هم الشهداء والجرحى.
- ولا شك أن ارتفاع عدد الشهداء والجرحى في جمع معينة، مدعاة لغضب بعضٍ أو كثيرين، إلى جانب طول المدة، خاصة مع ضعف الإمكانات في متابعة حالات الجرحى وذوي الشهداء، رغم الجهد الهائل الذي يبذل سواء من الطواقم الطبية، أو ما يقدم فعلًا لهذه العائلات من مساعدات محدودة.
- ولكن الحقيقة أيضًا أن جزءًا كبيرًا من التباكي على دماء الشهداء، والتشكيك في نوايا المشاركين، ليس له علاقة بالرغبة في عملية تقييم لحالة وطنية، بقدر ما هو جزء من حالة المناكفة والتشكيك.
هي معزوفة حاضرة مع أي حال يتصدرها طرف فلسطيني (حماس وفصائل المقاومة)، فإذا نادت بالمقاومة المسلحة اتهمت بعدم قراءة الواقع، وإذا انخرطت في التدريب والإعداد وتوقفت عن العمليات، تعالت الصرخات: أين المقاومة؟ وإذا صمتت، أو سعت لتهدئة، أو نفذت تهدئة، قالوا: باعوها، وإذا تظاهرت سلميا، قالوا: وأين الصواريخ والمقاومة المسلحة؟ إذا ردت على الاحتلال قالوا: جلابة حروب؟ وإذا صمتت لم تسلم! انتقاد مرضي مناكف ليس أكثر.
لكن هذا لن يمنعنا من الاعتراف بأن هناك أصواتا وطنية حرة، تدعو للتقييم المستمر، ودراسة واعية لما جرى ويجري، ومستويات تحقق الأهداف وبأي تكلفة؛ انطلاقًا من حس وطني ورغبة في تحقيق إنجاز أفضل.
لا نملك إلا أن نفخر بهذه التضحيات من الشهداء والجرحى والشباب الثائر، وهذا يزيد إيماننا بأنَّ أصحاب الحقِّ لا بُدَّ أن يسترجعوه؛ إذ لا يُتخيَّل تحرير وطن بلا تضحية، وفاتورة مكلفة؛ فالتغريد والبوستات والنضال عبر الفضاء الأزرق والأبيض لا يحرر أرضًا ولا يوقف انتهاكًا؛ إنما هي جهود متكاملة في المقدمة منها الفعل الميداني القائم على التضحية والبذل.
وبتقديري المسيرة حققت فعلا بعض أهدافها الموضوعية، وأن هناك حاجة ماسة لعملية تقييم جدية، موضوعية، والأهم من كل ذلك، كيف نرتقي جميعا إلى مستوى هذه التضحيات وهذا الفعل الوطني الكبير؟.