لا شك في أن قيادة الكيان الصهيوني أخطأت في التعامل مع روسيا، حين سمحت لقيادة سلاح الطيران بدفع الطائرة الروسية إلى مرمى نيران الصواريخ السورية، ما أدى إلى سقوطها والقضاء على حياة خمسة عشر عسكريًا روسيا، يقدّر أن بعضهم من القادة العسكريين المهمين.. وذلك حين تبين بأنها لن تفلت بالتحجج أن المسبب بسقوط الطائرة هي النيران السورية. فالتحقيقات المبنية على وقائع لا تُدحض أثبتت أن الطيران الصهيوني هو الذي دفع الطائرة الروسية، ومع سبق الإصرار والتصميم، إلى حتفها. وأما البيّنات التي حملها قائد سلاح الجو الصهيوني إلى موسكو، فلم تستطع تبرئة الطيران الصهيوني من الدور الذي لعبه للإيقاع بالطائرة الروسية.
وأخطأت القيادة السياسية والعسكرية الصهيونية حين لم تعتذر لبوتين وتستمع لشروطه وتطبقها، إذا أرادت أن تتلافى الأزمة الخطرة عليها في حال إصرارها على البراءة، وعدم احترام القرار الاتهامي الروسي، الأمر الذي دفع بوتين إلى اتخاذ رد من خطوتين: الأولى تزويد الجيش السوري بصواريخ "إس 300"، والثاني الحاجز الكهرومغناطيسي الذي يتعاطى مع الاتصالات والرادارات، ومناورات الطائرات المغيرة.
هاتان الخطوتان ستعرقلان ما كانت تتمتع به الطائرات الصهيونية في إغاراتها من تنسيق ومعادلة صراع بين روسيا وحكومة نتنياهو. فهاتان الخطوتان إن لم تمنعا الطيران الصهيوني من الإغارة على سوريا منعًا تامًا، فإنهما ستعرقلانه وتصعبان مهمته، وتشكلان خطورة دائمة على طائراته. وهذه معادلة أين منها المعادلة السابقة لسقوط الطائرة الروسية، وما نجم عنها من غضب بوتين وقيادة الجيش الروسي، وإدخال "إس300" والكهرومغناطيس في المعادلة الجديدة.
الحرب الحقيقية التي يخوضها الجيش الصهيوني منذ بضعة أشهر؛ تتمثل في مواجهة إيرانية بمشاركة القيادة السورية مع الطيران الصهيوني. واستنادًا إلى المعلن من مصادر عسكرية صهيونية، أو مقربة من الجيش الصهيوني، فإن ثمة استراتيجية ينفذها الحرس الثوري الإيراني (بمشاركة سوريا) في زرع صواريخ ذكية ودقيقة وثقيلة وسريعة في سوريا، ليكتمل الطوق الصاروخي الممتد من قطاع غزة، ولا سيما من لبنان (حزب الله).
وفقًا لتصريحات ليحيى السنوار، فإن بإمكان المقاومة في قطاع غزة أن تقصف في خمس دقائق ما قصفته طوال 52 يوميًا في حرب 2014. ووفقًا لتصريحات صهيونية، ثمة تقديرات بامتلاك حزب الله ما بين 170 الف إلى 200 ألف صاروخ.
وإذا أُضيف التصريح الصهيوني الذي جاء فيه: أن القصف الذي تعرض له موقع صاروخي للحرس الثوري جنوبي مطار حماة، أحدث زلزالًا بقوة 2.7 على مقياس ريختر، فإن هذا يفرض التصور بأن ثمة حربًا غير معلنة مندلعة في سوريا، طرفاها الكيان الصهيوني وكل من الحرس الثوري والجيش السوري، ومعادلتها كالتالي: الطرف الأول يقصف كل موقع يشتبه بوجود صواريخ فيه، بينما الطرف الثاني يتماشى مع هذه المعادلة ما دام يستطيع أن يزرع عددًا أكثر من الصواريخ التي تفلت من دائرة الاشتباه، وذلك لتكون المحصلة من وجهة نظره في مصلحته خلال عام. وذلك كما حدث خلال الثماني سنوات الماضية في معادلة الشاحنات التي تحمل الصواريخ من سوريا إلى لبنان، وهي المعادلة التي فرضها الطيران الإسرائيلي بالإغارة على كل شاحنة يشتبه فيها، فيما تفلت مجموعة من الشاحنات الأخرى من دائرة الاشتباه، أما النتيجة النهائية فلم تكن في مصلحة الكيان الصهيوني.
المعادلة آنفة الذكر، الجارية لنقل منذ عام أو أقل في سوريا، أسفرت حسب الإحصاءات الصهيونية عن مئتي غارة صهيونية على مواقع زرع صواريخ، أو صنع صواريخ. وهذا ما كان "يترنم" به البعض بالقول إن "(إسرائيل) تعربد في سوريا"، بمعنى أن يدها هي العليا. طبعًا يبدو الأمر في ظاهره كذلك، ولكن حسابات البيدر شيء آخر. ولو لم يكن كذلك، فلماذا كل هذه الإغارات إذا لم يكن في المقابل ما يوجبها؟ فالإغارات هنا ليست للعربدة، وإنما -كما صرح نتنياهو- لعدم السماح لإيران بأن تكرس قواعدها في سوريا، وأن تكريس هذه القواعد "قضية لا تستطيع (إسرائيل) أن تسكت عليها". وهذه بالطبع، وبلا شك، إذا صحت معلومات نتنياهو، مسألة استراتيجية عسكرية من الدرجة الأولى، بل لا ترقى من فوقها معادلة غير معادلة الحرب الحامية حين تنطلق الصواريخ إلى داخل الكيان الصهيوني.
بعض الذين يتعاطون بالتحليل السياسي، لم يخطر لهم ببال أن يقرؤوا كارل فون كلاوزيفتش (واضع أسس علم الحرب)، فقد راحوا يعيّرون حزب الله منذ 2006، ويُعيّرون المقاومة في غزة (حماس والجهاد) بأن اتفاقات وقف إطلاق النار على الحدود راحت تحمي "حدود" الكيان، وتؤمّن له حياة رغيدة مستقرة. ولكنهم لم ينتبهوا إلى أن وقف إطلاق النار على الجبهتين كان عبارة عن الانتقال إلى مرحلة أعلى عسكريًّا في المواجهة والحرب، وهي زيادة التسلح وحفر الأنفاق، والإعداد العسكري لحرب قادمة تتسم بمواجهة أعلى بكثير من مواجهة المقاومة المعروفة تحت تكتيك "اضرب واهرب"، أو العمليات الصغيرة المحدودة. وهو المستوى الذي تفرضه الاستراتيجية الدفاعية حين يكون العدو مسيطرًا سيطرة كاملة أو شبه كاملة، فيما المرحلة الأعلى من شأنها أن تغيّر قواعد الاشتباك، وقد تصل إلى مستوى الردع الاستراتيجي، أو ما يقرب من شبه التوازن الاستراتيجي. فهنا لا يمثل وقف إطلاق النار، وهدوء الجبهة، ما يسمى "تأمينًا" لحدود العدو، وإنما الدخول في مرحلة الوصول إلى التهديد الاستراتيجي.
إن المعيار السياسي الصحيح لحالة وقف إطلاق النار هو السؤال: هل سيستمر التسلح والإمداد لحرب أعلى مستوى؟ أم يعني التخلي عن التسلح والإمداد بما يعني تسليم السلاح.. الاستسلام؟
ولهذا يخطئ من لا يقرأ ما وصلته المقاومة، من تسلح وقوى صاروخية وإعداد عسكري ميداني في قطاع غزة، وفي لبنان، وما يجري من إعدادات صاروخية في سوريا، ومن ثم يخطئ من لا يدرك مستوى الخطر الاستراتيجي الذي يواجهه الكيان الصهيوني في هذه المرحلة، فضلًا عن عناصر ضعف لا تقل خطرًا، راحت تضرب بنيته العسكرية، ولا سيما في الحرب البرية، كما راحت تحوّل "مجتمعه" من "مجتمع" تقشف وحرب، كان طوال أربعة عقود من تكوّنه، إلى "مجتمع" استهلاكي عولمي لا يحتمل حربًا تنتقل إلى مدنه، أو يحتمل أن يرى توابيت جنوده آتية من الجبهة.
ومن هنا يكون نتنياهو وقيادته العسكرية قد دخلا في أزمة متفاقمة في سوريا إذا ما نصبت صواريخ "إس 300"، وإلى جانبها الأجهزة الكهرومغناطيسية.