تكاثرت الدعوات لترقب خطاب تاريخي للرئيس محمود عباس؛ مترافقة مع تكهنات حول إمكانية إعلان ترمب بنود صفقة القرن وتفاصيلها في الأمم المتحدة؛ حالة الترقب سرعان ما بدّدتها الوقائع والخطابات؛ فالرئيس عباس لم يحل السلطة ولم يعلن إيقاف التنسيق الأمني بل على العكس أعلن في باريس بأنه مستعد لعقد مفاوضات سرية أو علنية مع الكيان الاسرائيلي؛ والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت في باريس في حين التقى رئيسة الوزراء السابقة ايضا ليفني في نيويورك؛ موحيا استمرار الرهان على أوسلو ومخرجاتها وعلى رأسها التنسيق الأمني.
غابت صفقة القرن عن خطاب الرئيس الأمريكي مكتفيا بالدفاع عن موقفه من نقل السفارة الأمريكية ومؤسسات الأمم المتحدة؛ مستعرضا انجازاته التي يقف على رأسها نزعته الحمائية والانعزالية اليمينية المناهضة للعولمة؛ فصفقة القرن لم تكن هاجسه في الأمم المتحدة؛ ذلك أن الهاجس الحقيقي كان الدفاع عن سياساته واستعراض انجازاته التي عزلت أمريكا حتى عن أقرب حلفائها الأوروبيين.
في مقابل ذلك؛ حضرت غزة في لقاءات الرئيس عباس سواء مع أولمرت أو مع ليفني فهاجس حراك العودة في غزة تحول إلى أرق في الليل والنهار وتهديد أمني وسياسي وإعلامي للكيان الإسرائيلي في ظل تأزم الموقف العسكري في الشمال على الحدود السورية واللبنانية؛ فغزة ثغرة كبيرة في الاستراتيجية الإسرائيلية تربك الحسابات لما بعد الحتميات البيولوجية في الضفة الغربية والمرتبطة بهرم وشيخوخة السلطة وتقادم الزمن عليها؛ والاهم من ذلك قلق كبير في اوساط النخبة الاسرائيلية من الإرث الثقيل الذي سيخلفه نتنياهو وترمب من ورائه لمنافسيه وخصومه السياسيين.
حضرت غزة وحضرت معها البيولوجيا والأزمة السورية والمخاوف من انفجار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية حذّر منها قائد هيئة الأركان الصهيوني غادي ايزنكوت؛ فالفاعل الرئيس الآن في فلسطين قطاع غزة لدرجة أن صفقة القرن تراجعت عن سلم الأولويات حتى بالنسبة للقيادة في رام الله وعلى رأسها محمود عباس؛ فهاجس غزة لاحقه إلى نيويورك؛ ليعلن عن نية السلطة في رام فرض وجبة جديدة من العقوبات والإجراءات للتعامل مع هذا الهاجس المقلق الذي تلاحقه به الزعامات الاسرائيلية المتوترة.
لقاءات رئيس السلطة في نيويورك وباريس أثبتت على نحو لا لبس فيه أن غزة باتت رقمًا صعبًا يصعب تجاوزه في ظل الاستحقاقات البيولوجية المقبلة وفي ظل تعثر أزمة القرن وحراك العودة في قطاع غزة.
سيناريوهات مُقلقة
السيناريوهات مقلقة بالنسبة للكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية؛ فالضفة الغربية ستدخل حقبة جديدة بعد رحيل محمود عباس؛ حقبة لم تستعد لها بعد، فصفقة القرن لم تكتمل عناصرها لأسباب موضوعية تتعلق بقطاع غزة والممانعة الأردنية لأي حلول سياسية وأمنية تزعزع استقراره وأمنه؛ فالأردن يعاني من أزمة مركبة اجتماعية اقتصادية لا تقل خطورة وأهمية عن أزمات الإقليم ؛ دافعا "تيرزا ماي" رئيسة الوزراء البريطانية إلى الإعلان بعيد لقائها الملك عبد الله الثاني عن عقد مؤتمر للمانحين بهدف مساعدة الأردن لتخفف من أزمته الخاصة؛ حال الأردن لا يختلف عن حال فلسطين وغيرها من الملفات؛ فترمب يصنع الأزمات ويُعقّد الملفات ويلقيها على حلفائه لمعالجة تداعياتها كأزمة الانسحاب من الملف النووي؛ أزمات يخشى أولمرت ومن ورائه ليفني وإيهودا باراك من مواجهتها مستقبلا .
ختاما: المرحلة المقبلة تحمل في ثناياها الكثير من التفاصيل والتعقيدات والاسئلة الصعبة التي لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية الطرف الوحيد القادر على تقديم إجابات أو حلول لها؛ أسئلة يزيدها تعقيدا تسارع الساعة البيولوجية والديموغرافية في فلسطين المحتلة واقتراب الملف الفلسطيني من نقطة حرجة تشابه ما وصل إليه الملف السوري والملف النووي الإيراني؛ بل والملف الأفغاني، اذ انفتحت على العديد من السيناريوهات وباتت حصانتها، أمام لعب أطراف إقليمية ودولية أدوار فاعلة فيها إلى جانب الولايات المتحدة، مسألة من الماضي السحيق.