ليسمح لي قارئ هذا النص أن أتقمّص شخصية الراوي قليلًا، إذ ثمّة أفكار فيه اقتُبست من حوار شائق وطويل جرى مع الصديقين، الكاتب والصحفي ميشال نوفل، وأستاذ الجراحة في الجامعة الأميركية في بيروت، الدكتور غسّان أبو ستة، خلال جلسة في أحد مقاهي بيروت، على هامش نقاش عميق حول التجربة الطبية للدكتور غسّان في جميع الاجتياحات التي شهدتها غزة، وقبلها في انتفاضاتها المتكرّرة، منذ عمل مسعفًا فطبيبًا فجرّاحًا، وحتى مسيرات العودة الكبرى التي يشهدها القطاع هذه الأيام.
فاجأنا الدكتور غسّان بانتقاله من الجانب التقني لعلاج الجرحى وإسعافهم إلى جانب آخر أبحر فيه كرُبّان ماهر، حين قال "إنّ للجرح سردية"، فالجرح ليس مجرّد ثقب في الجسم ينزف دمًا، أو عظامًا متشظّية، أو طرفًا مبتورًا، هو أكثر من ذلك بكثير. وما يحيط بالجرح قد يعمّقه ويجعله أكثر إيلامًا، وقد يحيله إلى سحابةٍ تحمل صاحبها نحو فضاء أرحب وأجمل. كما أنّ الجروح لا تتشابه، فلكل جرح حكايةٌ، تستحق أن تُروى، تختلف عن مثيلاتها، وتسبق لحظة الجرح بمدى زمنيّ يطول أو يقصر، وتعيش معه، وتستمر بعده. وقد تتغيّر حكايته، وتختلف قيمته باختلاف الزمان والمكان، فقد يتحوّل الجرح نفسه من بطولة وشرف ومجد وأكاليل غار، إلى تهمة تلاحق صاحبها، فلكل جرح سرديةٌ تبدأ ولا تنتهي.
حدّثنا غسّان عن الشهيد جمال أبو سمهدانة، مؤسس ألوية صلاح الدين في غزة، الذي عالج محدّثنا جرحَه وجروح ابنه وحفيده، وروى لكل منهم قصة جراح من سبقوه. هنا تتجاوز سردية الجرح الشخص نفسه، وحتى العائلة، لتصبح سردية أجيالٍ متعاقبة تتمسّك بوطن واحد، وتنزف دمًا أو مسكًا على ضفافه.
لكنّ دم الجرح الذي نزف وسال وروّى أرضًا، قد ينزف بعد أن يبرأ ألمًا أو ندمًا، وقد يتحوّل إلى إصرار وتحدٍّ، ففي الاتحاد السوفييتي كان جرحى الحرب العالمية الثانية يتقدّمون الصفوف في الاستعراضات العسكرية منتصبي القامة، تزيّن صدورهم النياشين والأوسمة، وهي النياشين والأوسمة نفسها التي اضطروا إلى بيعها بعد أن ألقى بهم الرئيس الأسبق، بوريس يلتسين، عند انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى قارعة الطريق، قبل أن يعيد إليهم الرئيس الراهن، فلاديمير بوتين، بعضًا من كرامتهم المهدورة.
الجرح هو نفسه من ناحية تقنية، يحتاج إلى علاج ورعاية طبية، لكنّه قد يشكّل مصدر فخر واعتزاز حينًا، أو مصدر خزي وعار حينًا آخر، بل وقد يتحوّل من قيمة إيجابية إلى قيمة سلبية باختلاف الظروف السياسية. وهنا، لعلّنا نتساءل عن مشاعر جرحى الحرب العراقية الإيرانية، بعد أن أصبحت إيران الحليف الأقرب للنظام العراقي الرسمي، هل تمّت المحافظة على رمزية جروحهم، أم اختلف ذلك بحيث نسجت المتغيّرات السياسية سرديةً جديدةً لجراحٍ قديمة؟ هل يفاخرون بهذا الجرح أم يهربون منه؟ وهل ينقمون على من زجّهم في تلك الحرب، أم على من غيّر مسارها وتحالفاتها؟ هل تتحمّل تلك الجراح وزر الهزيمة كما تحتفل بالنصر، أم أنّ ذلك يلحق بقادتها ومسؤوليها فحسب؟ ينطبق هذا المثال على جرحى النظام والمعارضة في سورية، وفي الحروب الأهلية كلها، ليروي كل جرحٍ قصة وطنٍ نازفٍ بانتصاراته وهزائمه، وتحوّله إلى بلسمٍ يشفي الوطن من أمراضه، ويطهّره من خطاياه، أو تجعل منه نزفًا دائمًا في جسد وطنٍ كبيرٍ أنهكته الحروب، واستبدّ به الفساد، وعاث في أرجائه التطرّف والجمود.
لكل فرد أن يتباهى بجرحه ويفتخر به، أن يعدّه من دروب البطولة والفداء. له أن يؤدّي دور البطل، أو يمثّل دور الضحية، وله أن يخجل منه، إن لم يكن في سبيل هدفٍ نبيل، أو إذا ما تغيّرت الظروف وتبدلت الأحوال، ونَدِمَ على تجربةٍ خاضها أو اضطر إليها مرغمًا، ثم اكتشف عقمها وخواءها، وله أن يحزن ويتألم إن لم يجد، بعد حين، ذلك التقدير الكافي لما قام به، وإذا ما رأى من لم يبذلوا جهدًا يتقدّمون ليقطفوا الثمار الآن. ولكن ما يؤلم حقًا أن يمتد جرح الفرد ليُمسي جرح وطن، وجرح الوطن غائرٌ عميق، وينتشر سريعًا من العضو المصاب ليشمل سائر الأعضاء، فيمزّق نسيجه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ليصل إلى منظومته القيمية، فيعيث فيها فسادًا.
تنشأ جروح الأوطان بتدخلات أطرافٍ خارجيةٍ تريد بسط هيمنتها عليه، ونهب مقدّراته، وإخضاعه لرغباتها. كما يُنتجها احتلالٌ غاشم يقضم الأرض، ويضع السكان تحت سطوة بساطير الاحتلال. لكن ما يعادل ذلك ويفوقه مرارةً أن يكون الجرح من صنع بعض أبنائه، وأن تكون الاستعانة بالأجنبي لتوطيد سلطانهم وحمايتهم من خطرٍ مزعوم. تتقيّح الجروح بالفساد الذي سرعان ما ينتشر، وينهك جسد الأمة كلها، وعادة ما يترافق الفساد مع الاستبداد، فتنعدم مظاهر الحرية وتختفي، ويُخترع أعداء وهميّون، وتُختلق ضغائن متخيلة، تُلهي العباد وتمكّن الفساد والاستبداد، وتتيح للعدو التسلل إلى داخل خلايانا وأدمغتنا.
قد يعالَج جرح الوطن بمناعة الجسم الذاتية، وبصمود أعضائه التي تزداد منعةً وقوةً، كلما استمرت في مقاومتها، وقد تسترد عافيتها إن اتحدت، ولكن، في أحيان وأزمان كثيرتين، يصدق المثل الشعبي "آخر العلاج الكيّ".