فلسطين أون لاين

عمل في شركة "فورد" العالمية

"طالب الريَّس" وكواليس النجاح في مهمة "المهندس"

...
المهندس الفلسطيني طالب الريس
غزة - عبد الرحمن الطهراوي

لم يفكر المهندس الفلسطيني طالب الريس بصنوف المعاناة التي قد يعيشها حال عودته إلى القطاع الساحلي المحاصر من كل جهات الدنيا، كل ما جال في خاطره وقتها أنه حان الآن موعد العمل على تحقيق حلمه الأسمى بخلق جيل فلسطيني يؤمن بـ "روح العلم" أولاً.

وفي فبراير/شباط 2015 حزم طالب حقائب السفر قاصداً فلسطين أرض المولد والمنشأ تاركاً خلفه في المملكة المتحدة "بريطانيا" مستقبلا عملياً وعلمياً يعد بمثابة حلم للشباب الذين يستقلون المحطة الـ 34 من قطار العمر.

"فلسطين" التقت بالدكتور طالب الريس، الذي تولى منذ أشهر رئاسة قسم الهندسة الصناعية والميكانيكية في الجامعة الإسلامية بغزة، للتعرف على كواليس نجاحاته الشبابية؛ وروح العلم التي يحملها.

"كيف كانت طفولتك" بهذا السؤال بدأ الحوار مع ضيفنا، الذي بدت عليه علامات الهدوء المقترنة بتواضع العارفين، وعن الاستفهام الأول أجاب: "كانت أياما عادية خيم على جل تفاصيلها أحداث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فعشت ما بين معاناة الاحتلال الإسرائيلي ورعاية أسرية سعت بكل طاقتها أن يشار لابنيها الوحيدين بالبنان في صغرهما وكبرهما".

وتابع إجابته "درست المراحل التعليمية الأساسية والثانوية في مدارس غزة الخاصة باستثناء الثانوية العامة "التوجيهي" فلقد انتقلت إلى مدرسة الكرمل، وفي تلك الفترة كنت أجيد التحدث باللغتين الإنجليزية والفرنسية مستفيداً من الاحتكاك الدائم بالأجانب داخل المنطقة التي نسكن فيها فضلا عن الالتحاق بمعهدٍ للغة".

جينات هندسية

وبعد تفوق الريس في شهادة الثانوية العامة بات عليه اختيار تخصصه الجامعي الذي انحسر في دراسة الهندسة، لسببين أولهما كونه متميزا في المواد العلمية "الفيزياء والرياضيات والكيمياء" والآخر وراثي _إن جاز التعبير_ فوالده بكر حاصل على شهادة الهندسة الزراعية من جامعة الإسكندرية وكذلك جده "فوزي" خريج كلية تقنية من مدينة يافا قبل نكبة عام 1948.

وعندما كان يستعد لإضاءة شمعته "السابعة عشرة" خرج من غزة نحو الضفة الغربية لدراسة الهندسة في جامعة بيرزيت بمدينة رام الله، ليعيش حيثيات تجربة جديدة شجعته أكثر على التعمق بدروب الحياة والاعتماد على نفسه وسط بيئة ذات ثقافات وعادات مختلفة نسبية عن غزة.

ويقول: "شعرت أن الهندسة هي التطبيق الأقرب إلى قلبي والمنسجم مع قدراتي الذاتية والعلمية، فخرجت لدراستها عام 1999 وأنا أحمل في ذاكرتي مفهوماً قاصرا عنها متمثلا بالشخص الذي يرتدي خوذة صفراء أو بيضاء ويرسم الخرائط، قبل أن أعلم أن الهندسة تُعرف بقدرة الإنسان على تحويل مبادئ ونظريات معينة إلى تطبيق يمكن للبشر استخدامه".

رغبة الريس بخوض تجربة حياتية داخل جامعة بيرزيت لم تكتمل تفاصيلها، فعلى وقع اشتعال الانتفاضة والاقتحامات الإسرائيلية المتكررة للحرم الجامعي عاد المهندس الشاب بحقائبه وكتبه إلى غزة بعد عام ونصف العام من الالتحاق ببيرزيت.

وللوهلة الأولى، خيل للشاب العشريني أن تلك العودة ستغير مجرى حياته وستبيد أحلامه في مهدها، ولكنه استجمع قواه سريعاً وحزم حقائبه ثانياً للسفر هذه المرة بعيداً إلى بريطانيا، حيث سبقه بأسابيع معدودة شقيقه الأكبر لاستكمال دراسة الهندسة في جامعة نوتنغهام.

وعن تجربة الدراسة والحياة في إنجلترا فتح مهندسنا صفحة جديدة غزيرة بالعبر، قائلاً: "العيش برفقة شقيقي شكل عاملاً مساعداً على الاندماج بحياة الغربة نفسياً واجتماعياً وتوفير نفقات مالية، وإن اضطررت في بعض الإجازات السنوية للعمل في معامل تصنيع الأغذية أو توصيل طلبات الزبائن إلى المنزل".

التعلم عبر التجربة

"ألم تواجه معيقات في أيامك الأولى؟" أجاب: "بداية لم انبهر كثيرا بحياة البريطانيين فالزيارات المسبقة إلى المملكة برفقة العائلة، قلصت تلك الفجوة التي من الممكن أن يصطدم الطلبة المغتربين بها، ولكن برز معيق أساسي يتمثل باللغة داخل القاعات الدراسية، رغم إتقاني الشديد للإنجليزية إلا أن اللغة الأم تبقى مختلفة".

ويستذكر في سياق المعيقات تفاصيل أولى محاضراته في الهندسة الميكانيكية عندما طلب منه أستاذ المساق رسم مخطط لنظام عمل مبدل السرعات في السيارة "قير" عندئذ تجمد الريس على مقعده دون أن يفعل شيئا على الورقة البيضاء بينما كان جميع زملائه مشغولين بتجهيز النظام.

ويعلل ضيفنا أسباب تلك الحالة بالقول: "اعتدنا في الصغر على النظام التعليمي القائم على التلقين والحفظ وتنفيذ معادلات محددة دون الخروج عن النمط وفق قاعدة: "واحد زائد واحد يساوي 2"، إلا أن طلب الدكتور البريطاني كان قائمٌا على حرية التفكير والتنفيذ ومحاولة فعل أي شيء دون النظر إلى النتيجة النهائية، أي التعلم عبر التجربة الذاتية أولاً".

وأمام ذلك الموقف الذي ستبقى كل تفاصيله محفورة في ذاكرة ضيفنا الثلاثيني، اندفع الأخير لتطوير أنماط تفكيره ومحاولة فهم طبيعة العملية التدريسية الأجنبية من خلال الاعتكاف لساعات طويلة بين رفوف المكتبة وملازمة الطلبة البريطانيين، الذين تفوق عليهم مع نهاية دراسته لمتطلبات البكالوريوس عام 2006.

وبعد حصوله على درجة Beng Mechanical Engineering الجامعية للبكالوريوس والماجستير، أتيحت له فرصة العمل في شركة فورد العالمية لتصنيع السيارات وضمن الطواقم العلمية والهندسية المختصة بإجراء البحوث التطويرية في مجال التحكم بالعوادم الخارجة من السيارات ومحطات الطاقة.

ويضيف: "ما بين عامي 2006 و2010 عملتُ كمعيد في كلية الهندسة بجامعة نوتنغهام بالتزامن مع العمل في فورد وفي ذات الفترة حصلت على الدكتوراة نتيجة للبحوث التي ركزت على دراسة تأثير استخدام كحول الإيثيلي بنسب مختلفة على الخواص المختلفة لمحرك الاحتراق الداخلي، قبل أن انتقل إلى العمل في شركة Ltd no Emix ".

ويصف الريس محطاته الحياتية السابقة بمثابة البوابة التي مكنته من الدخول أكثر في عمق الأبحاث العلمية التي يفتقدها الوطن العربي عموما، والذي يبدو محبطاً وهو يتطرق إلى هذه النقطة: "تتباهى الشعوب العربية بشراء مواكب السيارات الحديثة ويتسابق مواطنوها على معارض البيع، إلا أن البصمة العربية شبه غائبة عن ذلك المجال".

قرار العودة

وحظي طالب الريس خلال فترة إقامته في بريطانيا بفرصة المشاركة وحضور عشرات المؤتمرات العلمية والصناعية حول العالم، والمشاركة في إعداد مئات الأبحاث التطويرية التي احتاج بعضها لقرابة الأربع سنوات من العمل المتتالي، مسجلاً هنا إعجابه بالشعب البريطاني لانشغاله الدائم بعمليات البحث والتطوير.

وفي عام 2014 عزم الريس على زيارة أهله في غزة لمدة أسبوعين، وخلال وجوده بالقطاع التقى بالدكتور محمد أبو هيبة الذي عرض عليه العمل في قسم الهندسة الصناعية والميكانيكية بالجامعة الإسلامية، الأمر الذي نال قبوله، وعلى إثر ذلك قرر العودة بعد ثلاثة أشهر من تلك الزيارة إلا أن الحرب الإسرائيلية الأخيرة أجبرته على تأخير الموعد.

ويعلق ضيفنا: "عدت بعد انتهاء الحرب بنحو ستة أشهر وطالعت عمل عدة مصانع في مجالات مختلفة، وهنا أسجل إعجابي ودهشتي من قدرة تلك المصانع على مواصلة العمل في ظل هذا الحصار الإسرائيلي الخانق ووجود قائمة ممنوعات طويلة إن فرضت على أي كيان آخر لتدمرت صناعته".

وبالتطرق إلى واقع التعليم داخل قطاع غزة يقول: "أستغرب من وجود هذا الكم الكبير من الجامعات والكليات والمعاهد مقارنةً بأعداد السكان الغزيين، فضلاً عن وجود تضخم سنوياً بأعداد الخريجين من جميع الأقسام باستثناء الكليات الطبية، الأمر الذي أوجد حالة من التشبع التام على المدى القريب والبعيد".

هل تصل الرسالة؟

ويتساءل مستغرباً "ما فائدة التفاخر والتباهي بتخرج 40 أو 60 ألف طالب وطالبة من تلك الجامعة أو ذلك المعهد دون أن تكون الجهات المسؤولة قادرة على استيعاب قدراتهم وإمكانياتهم في سوق العمل المحلي؟!"، مشيراً إلى أهمية خلق جيلٍ يؤمن بالصناعة كمفتاح للمشاكل.

"النظام التعليمي الأكثر نجاعة هو الذي يعلم الطلبة كيف يطبقون العلم قبل حصد أعلى العلامات"؛ هذه الكلمات مُلخص الرسالة التي يود طالب أن يوصلها "للمسؤولين" ليبين أن الهدف من التعليم أن تتعلم، قائلاً: "إن تقلدت يوماً ما إدارة شركة فسأفضل توظيف الإنسان المجتهد العملي على العبقري الكسول".

ويسدي الدكتور طالب في ختام حديثه نصيحة لكل من أراد اللحاق بركب الهندسة وخاصة الميكانيكية منها: "أعلم أن الدراسة الأكاديمية لا تصنع مهندساً، إنما السر يكمن في التفكير خارج الصندوق وبقدرتك على خلق وظائف للناس"، مؤكدا أن الإبداع يكمن في تطبيق المعلومة وليس في الوصول إليها وهذا "روح العلم".

"الحياة صعبة .. تعامل معها" يعتبر الدكتور طالب الريس تلك المقولة البريطانية من أثمن النصائح التي تلقاها في حياته، إذ يؤمن ضيفا الثلاثيني أن "الحياة عبارة عن 1% عبقرية و 99% عمل واجتهاد" وكذلك يرفض وضع تعريف خاص بالنجاح حيث يعتبره حالة عقلية يتباين تحديدها وفق طموحات كل شخص.