طرقات عنيفة على الباب وقت الفجر بعثت الفزع في أفئدة الصغار. إنهم جنود مسلّحون يهمّون باقتحام المنزل لاعتقال الأم. لا داعي للسؤال عن السبب، فهي كاتبة فلسطينية معروفة، والقلم الحرّ في فلسطين قد يقود صاحبه إلى سجون الاحتلال.
كان مشهد اعتقال الكاتبة لمى خاطر من بيتها في الخليل، جنوب الضفة الغربية، فجر 24 يوليو/ تموز 2018 مؤثرا للغاية. الْتَصَق بها ابنها الصغير طويلا قبل أن ينتزعها جنود الاحتلال منه. كان وداعا حميما تمكّن أحد الحاضرين في المكان من تصويره.
هل بوسع حكومة بنيامين نتنياهو إقناع طفل فلسطيني بمبرر اختطاف أمِّه الكاتبة على هذا النحو، أو رفض السماح له بزيارتها عندما ذهب للقائها بعد أيام في مركز احتجازها؟ أدرك الطفل أنّ أمّه على مقربة منه لكنها محجوبة عنه خلف الأسوار والأسلاك الشائكة دون أن يسمح له الجنود بالدخول.
إنها لمى خاطر التي اشتهرت بمقالاتها الناقدة التي تتناول سياسات الاحتلال والأوضاع الفلسطينية وانتهاكات حقوق الإنسان. وَصَفَت في كتاباتها المتتابعة عبر السنين واقعاً لا يبشِّر بقيام "دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة" حسب وعود "الرباعية" الدولية. فالاحتلال واصَل فرض الحقائق الجسيمة على الأرض كما يطيب له، وعزّز سيطرته بالجدران والحواجز ومصادرة الأراضي والتضييق على الفلسطينيين وحملات الاعتقال اليومية التي كانت خاطر ضحيّتها أيضاً.
كانت لمى تكتب بيدها بينما ترى الاستيطان وهو يستشري في الخليل، حيث تتمركز مجموعات من أكثر المستوطنين المسلّحين تطرفاً وعدوانية، خاصة في مستوطنة "كريات أربع" التي تطفح بالفاشية. يقوم المستوطنون الذين زرعهم الاحتلال في الخليل بتهديد حياة الفلسطينيين اليومية في المدينة القديمة، ولا يكفّون عن تدمير كروم العنب الشهيرة بجودتها في أراضي الخليل، والإقدام على إحراق أشجار الزيتون في أرجاء الضفة الغربية. يعبِّر هذا السلوك عن مأزق أو عقدة لدى مقترفيه، وقد كتبت خاطر في هذا الشأن: "إن كان لنا أن نتساءل عن سبب إصرار المستوطنين الصهاينة على إحراق حقول زيتون فلسطينية كل عام؛ فأحسب أنّ هذا سيظلّ يحدث ما دام المستوطن يشعر أنه دخيل على هذه الأرض، لأنه لم يرث عن أبيه أو جدّه شجرة زيتون عمرها مئات السنين، تربطه مادياً ومعنوياً بالأرض، وتمنحه دليلاً على وجوده الممتد والعميق فيها".
كتبت خاطر عن سياسات الاحتلال القاهرة في أرجاء الضفة الغربية، وكيف فرضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الفلسطينيين العيش ضمن ما يشبه المعازل السكانية، أو "البانتوستانات" بتعبير النظام البائد في جنوب أفريقيا، فصارت التجمّعات السكانية الفلسطينية في الضفة تفتقر إلى تواصل جغرافي في ما بينها.
لا ترضخ لمى خاطر لهذا الواقع، فهي تحمل روحاً ثورية متأججة جعلت مقالاتها بمثابة "انتفاضة الكلمات" كما تصفها حملات تضامنية معها. تحدّثت لمى في نصوصها عن تضحيات شعبها، ووصفت بفخر صمود النساء والفتيات الفلسطينيات تحت الاحتلال ومشاركتهن الفاعلة في تحدي قوّاته، فكتبت عن "نساء وفتيات تقدّمن الصفوف (...) وكنّ شموساً تمتدّ من سماء إلى أخرى، ووروداً تتفتح ثورة وعطاءً في أكثر من ساحة".
ظلّت حرية التعبير من شواغل الكاتبة الأسيرة، وقد سجّلت في السنوات الأخيرة أنّ قيادة الاحتلال صارت أكثر ميْلاً "للتخلي عن كثير من أقنعتها التي ظلت حريصة على ارتدائها فيما مضى، وخاصة تلك المتعلقة بادعاء سماحها بحرية الرأي والتعبير، فهي اليوم ترى أن سياسات القمع والحظر وتكميم الأفواه أكثر جدوى وفاعلية لحسم معاركها أو للتنفيس من احتقانها الناشئ عن أزماتها الأخرى، وهي ليست مضطرة لتقديم كشف حساب للعالم بشأن سلوكها الديمقراطي، لأن كل ما يلزم هو اتخاذ يافطة مضللة من طراز الحرب على الإرهاب أو مكافحة التحريض لكي تجري انتهاكات كبيرة تحتها، في ما لا يبدو العالم مكترثاً بفحص مدى دقة أو صوابية تلك الادعاءات."
وعلى الجانب الآخر تنتقد خاطر السلطة الفلسطينية التي "حرصت على تصدير صورة موهومة عن نهجها المتعلق بالحريات، وادعائها بصوْنها، لكنها أخفقت دائماً في رعايتها واحترامها، ولو ضمن الحدود الدنيا في كثير من الأحيان"، وهي تؤكد أيضاً أنّ "مشكلتنا مع السلطة أكبر بكثير من قضية الحريات، وأن قمع هذه الأخيرة يُعَدّ جريمة خفيفة العيار مقارنة مع خطيئة التعاون الأمني مع الاحتلال الذي تأسست السلطة على قواعده، وظلّ موجّهاً لها في كل حالاتها، ومهما تغيّر قادتها".
لم تكن الكاتبة الجريئة مستعدة لمجاملة السلطة الفلسطينية التي تحوّلت في عينيها إلى جهاز وظيفي يقوم بأدوار تكميلية بالتعاون مع حكومات الاحتلال، وهذا ما جرّ المتاعب عليها وعلى زوجها الأسير السابق في سجون الاحتلال، حازم الفاخوري، بما في ذلك الاستدعاءات المتكررة لدى أجهزة أمن السلطة التي تُبدي إخلاصاً في التعاون الاستخباري مع أجهزة الاحتلال الإسرائيلي، والكلمة المنمّقة لهذه العلاقة التي تثير سخط الفلسطينيين هي "التنسيق الأمني"؛ بموجب مفردات اتفاق أوسلو.
قبل ربع قرن من اعتقال لمى خاطر على أيدي قوة إسرائيلية في الضفة الغربية، تم إبرام اتفاق أوسلو، عندما كانت في السابعة عشر من العمر. في اعتقالها الجديد ما يكفي للقول إنّ اتفاق أوسلو في ذكراه كان وهماً كبيراً تم بيعه للفلسطينيين، ولم يحصلوا منه بعد ربع قرن سوى على استدامة الاحتلال وتوسّع الاستيطان واستمرار الاعتقالات، مع مزيد من الإملاءات التي تفرضها عليها الإدارة الأمريكية التي ترعى "عملية السلام".
مع كل يوم يقضيه فرسان الرأي وحاملو الأقلام الفلسطينيون في السجون؛ ينكشف مأزق هذا الاحتلال مع الكلمات؛ ولو كانت مقالاً أو تدوينة أو قصيدة شعر. إنها تقاليد الاحتلال الاستعماري البائدة التي راهنت طويلاً على قهر الشعوب وكسْر أقلامها وخنق أنفاسها الحرّة، دون أن تُفلِح في نهاية المطاف.