عملية قطع رواتب أسرى قد حرروا من سجون الاحتلال تعيد الموضوع إلى مربعات خطيرة وملغومة، منها على سبيل المثال: أن نجيب عن سؤال من هو الأسير؟ هل ندرك حجم الألم والتعذيب الذي مورس عليه فترة سجنه؟ هل كان في نزهة أم رحلة دراسية أو في مخيم صيفي ترفيهي؟ أو جولة سياحية؟ لماذا سجن هذا الفلسطيني؟ هل لأنه مثلا ارتكب جنحة يخالف عليها القانون؟ هل عوقب لانه خرج عن الصف أو غرد خارج السرب؟ كان مشاغبا أو أخل بالانظمة والقوانين التي من شأنها أن تحافظ على الهدوء والاستقرار؟ شاغب فاستحق السجن مثلا؟
لا بد اذًا من إعادة تعريف وتوضيح: من هو الاسير وماذا يعني الاسر عند الاحتلال فترات طويلة؟ الاسر بذاته قصة وفترات طويلة تتجاوز مثلا العشر سنوات قصة ثانية؟؟!!
ثم هناك مربع آخر: كلمة محرر كلمة ملغومة؟ هل بالفعل الاسرى المحررون هم الان أحرار؟ يعيشون حياتهم بحرية، يسافرون وقت ما يريدون؟ يتمتعون بوطنهم بكافة الحريات التي تمنح للمواطن في كل دول العالم التي تمنح الحرية لمواطنيها، يمارسون حقهم في التفكير والتعبير، يمارسون الديمقراطية الجميلة في الانتخاب والترشيح ويتحركون بحرية تامة، فطالما انهم سلميون ولا يستخدمون العنف والسلاح فإن لهم حرية التغيير والمساهمة في تشكيل الرأي العام الداعم او المعارض ، يتحركون في وطنهم بحرية تامة، فالاحتلال بعيد ولا يقحم نفسه في حياتهم، ينامون بأمن وأمان ولا يطرق الاعتقال أبوابهم فقد تخلصوا منه بلا عودة، ينامون الليل الطويل وعين الله تحرسهم من كل عين مخابراتية لامة ومن كل هواجس وهوس الاحتلال الذي يراعي حقوق الانسان مراعاة تامة، بكل دقة وامانة ولم يعد له شأن في حياة الاحرار ولو كانت سوابقهم أنهم كانوا أسرى في سجونه يوما من الايام.
لا بد من اعادة تعريف وتوضيح: هل بالفعل من تحرر من اسرانا هم أسرى محررون ؟ أنا شخصيا لا أعرف نفسي هذا التعريف: اسير محرر، بل أعرف نفسي بأسير سابقا ..لم أشعر بيوم من ايامي بعد ان خرجت من السجن باني محرر بالفعل، ما زلت ممنوعا من السفر مثلا وممنوعا من حريات كثيرة كغيري من الاسرى السابقين.
ومربع ثالث: هو مربع الكرامة فهناك تناغم تام بين ثقافة شعب رزح تحت احتلال بغيض وما زال، فهو يكرم ابناءه الذين قضوا في السجون خاصة اصحاب الفترات الطويلة، هذا النبض العالي والاحساس الكبير في الكرامة لدى هذا الشعب قد ترجم الى قوانين واستحقاقات للاسرى السابقين ، وهذا لا يعتبر تعويضا ولا توفيرا لهم متطلباتهم التي تجعلهم ينعمون بالحرية بعد سنوات القهر والالم التي تعرضوا فيها لكل صنوف الوجع من قبل عدو قد عهدناه جيدا بفنونه السادية غير المسبوقة، يكفي ان استدل بأمر ان مدير سجن كان يفرغ جرار الغاز من مخازنه في زنازين السجن لان صلاحيتها قد قاربت على الانتهاء ومعروف ان الغاز في زنازين السجن ليس كالخارج تبدده الرياح بل يستقر عدة اسابيع حتى يخرج من ثنايا البطاطين القاتلة.
فصرف راتب لهذا الاسير لا يعد تعويضا ولا تخليصا نفسيا ولا تكريما مناسبا لما قدم من عمل وطني أو بما دفع ثمنا من سني زهرة شبابه، ولا رد اعتبار يوازي ما حققه من لم يناضل ولم يؤسر من امتيازات وظيفية ومعيشية، انه أقل القليل وما يأخذه الاسير حالة صرف راتب لا يقارن بما دفعه وبما فاته من حياته لو لم يدخل معترك النضال وبقي مسالما للاحتلال.ثم فوق هذا وهذا يقطع الراتب؟؟!!
وهناك مربع رابع خطير: وهو ما هو مفاد الرسالة التي تصل الناس فلسطينيا أو غير فلسطيني من جراء الحيلولة بين هؤلاء وبين حد أدنى من عيش كريم وشيء يعوضهم تعويضا يسيرا لا يقارن من الذي دفعوه لوطنهم؟ للفلسطيني الرسالة واضحة وهي على عكس رسالة ما حققته هيئة شئون الاسرى من قانون يضع الاسير الذي تم تحريره من سجون الاحتلال في حالة لا تجعله يد سفلى تتلقى مساعدات الناس.. الرسالة لو كان نضال هؤلاء مشروعا لاستحقوا التكريم والتي اقلها راتب يقيه من العوز ويبقيه يدا عليا كما هو حاله في العطاء الوطني والنضال التحرري لشعبه ووطنه.
إن الراتب ككوب ماء لشجرة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء قد حشروها في ظروف قاسية سنوات طويلة عجافا ، قطع الراتب ان نحول بينها وبين كوب الماء هذا.. الكوب لا ولن يعوض سنوات ظمئها .. يبقى أقل القليل وأقل ما يمكن تقديمه لمن سرق منه اجمل سنوات عمره..