قد لا يتسع المجال في هذه العجالة للحديث عن الأسباب والعوامل التي سرعت بالانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، لكن أمرين مهمين لا يغيبان في جملة التفسير والتحليل وهما: ضربات المقاومة في غزة، وخسائر (إسرائيل) على صعيد القتلى والجرحى، واستنزاف جيشها في غزة، بجانب رغبة الإسرائيليين بالتخلص من العبء الاقتصادي والمعيشي والديموغرافي الذي تمثله هذه البقعة الجغرافية، بعد أن استنزفتها على هذه الأصعدة.
لا ينبغي لسبب أن يطغى على آخر، فضلا عن كون أحدهما لا يلغي سواه، لكن يبدو مهمًّا في هذه السطور الحديث عن اليوم التالي للانسحاب الإسرائيلي من غزة، على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وما هي تجليات السياسة الإسرائيلية في غزة بعد انسحاب آخر جندي منها؟
على الصعيد السياسي بات واضحا أن السلوك الإسرائيلي اعتبر صراحة أو ضمناً أن غزة تحولت لكيان معادٍ، تسيطر عليه حماس، وبالتالي يتم التعامل معه انطلاقا من هذه الفرضية التي تعني عملياً مقاطعته، والضغط عليه، ومحاولة إبقائه في حالة دفاع عن النفس، وليس الهجوم.
في المجال العسكري والأمني راقبت (إسرائيل) بعيون مفتوحة ورادارات لا تتوقف تعاظم المقاومة المسلحة في القطاع، وباتت تتحدث في كل يوم عن تنامي قدراتها في جانب، وزيادة إمكانياتها في جانب آخر، وارتفاع وتيرة حيازتها للمعدات في جانب ثالث، مما جعلها تتبع سياسة "جز العشب" مع المقاومة في غزة، عبر عدوان هنا، وحملة عسكرية هناك، وحرب مفتوحة هنالك.
عند الحديث عن الواقع الاقتصادي، أيقنت (إسرائيل) أن الحصار المعيشي لغزة قد يحقق لها ما تعجز عنه الآلة العسكرية، وإن شئت الدقة، يشكل استكمالا لهذا الدور الميداني العملياتي، عبر إبقاء غزة منذ الانسحاب منها تعيش وفق نظرية "لا تحيا ولا تموت".
بإمكان أي منّا أن يمسك ورقة وقلماً، ويجري تقييماً لمدى نجاعة أو إخفاق السياسة الإسرائيلية تجاه غزة في هذه المجالات، منذ الانسحاب منها، ولكل منا منطلقاته وفرضياته، لكن الثابت أن (إسرائيل) لم تنسحب عملياً وواقعياً من غزة، فقد خرج آخر جندي محتل منها، لكنها بقيت تتحكم بمداخلها ومخارجها، استمرارا لسياستها الرافضة منح أحد وكالة حصرية كي يحمي أمنها، لأنها لا تثق بأحد، هكذا باختصار.
إن كان من تغذية راجعة على الصعيد الفلسطيني، فإن إفشال السياسة الإسرائيلية تجاه غزة، ولعل الوقت لم يفت بعد، يتمثل بالحفاظ على الحاضنة الشعبية للمقاومة، خاصة في الجانب الاقتصادي المعيشي، وضرورة أن تبذل الجهود في سبيل عدم تحقيق (إسرائيل) لأهداف سياستها الاقتصادية ضد غزة، وأهلها، المتمثلة في استمرار فرض الحصار، الذي أتى على الأخضر واليابس في غزة.