القرار الأمريكي الأخير المتعلق بوقف كل المساهمة الأمريكية في تمويل «أونروا»، يؤكد موقف واشنطن المعادي للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية التي سبق للأسرة الدولية والولايات المتحدة قد اعترفتا بها وأقرها القانونان الدولي والدولي الإنساني. وجوهر الموقف الأمريكي لا يتمثل في إلغاء المساهمة المالية التي كانت تقدمها الولايات المتحدة، على أهميتها، طيلة العقود الماضية، بل في المعنى والغرض السياسي وراءها والمتصل بالموقف من قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق عودتهم إلى ديارهم والتعويض عليهم بنص القرار (194) وملحقاته.
إن الولايات المتحدة باتخاذها هذا القرار، تخرج على القانون الدولي والدولي الإنساني، وعلى مجموع ما يسمى «قرارات الشرعية الدولية» المتعلقة بالقضية الفلسطينية، بل أيضاً تخرج على القرارات الأمريكية السابقة التي سبق واعترفت بكل ذلك. وهي بذلك لا تكشف عن عدائها السافر للشعب الفلسطيني وحده، بل تعلن عداءها للأسرة الدولية بمجموعها فتكون دولة مارقة مثلها مثل دويلة الاحتلال ذاتها، التي لم تعترف يوماً بالأسرة الدولية، أو «الشرعية الدولية»، أو هيئة الأمم المتحدة. ومن الواضح الجلي أن هذا القرار هو الخطوة الثالثة، بعد القدس والمستوطنات، في جدول أعمال إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي يصر، من خلال خطواته هذه وما يسميه «صفقة القرن»، على تصفية القضية الفلسطينية جملة وتفصيلاً، وبالضغط لجر دول عربية وأجنبية إلى جانبه، خدمة للصهيونية، وتنفيذاً لكل بنود «المشروع الصهيوني» في فلسطين والمنطقة العربية.
مع ذلك، فإن الولايات المتحدة تبقى، كما جاء في الرسالة المفتوحة التي وجهها أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريس، إلى اللاجئين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم، دولة واحدة على أهميتها «لن تؤثر» في مسؤولية الأمم المتحدة تجاه اللاجئين الفلسطينيين وقضيتهم. وقد أكد الأمين العام في رسالته على أن تأسيس «أونروا» في العام 1949 كان «من أجل تقديم المساعدة وحماية حقوق الفلسطينيين إلى أن يتم التوصل إلى حل عادل ودائم لمحنتهم». وقد أحسن الأمين العام لنفسه وللأمم المتحدة عندما شدد على أن «الحاجة إلى عمل إنساني تنشأ جراء العنف الشديد والألم والمعاناة والظلم الذي تسببه الحرب»، لكن «في حالة لاجئي فلسطين، فإن تلك سببها التشريد القسري ونزع الملكية وفقدان البيوت وسبل المعيشة، علاوة على انعدام الدولة والاحتلال»، معترفاً صراحة بالتطهير العرقي الذي مارسته العصابات اليهودية، ومشيراً إلى أن «الحقيقة التي لا يمكن إنكارها تبقى أنه لديهم حقوق بموجب أحكام القانون الدولي وأنهم يمثلون مجتمعاً قوامه 5,4 مليون رجل وامرأة وطفل لا يمكن ببساطة القيام بإلغاء وجودهم»، نافياً ما تحاول الإدارة الأمريكية والقيادة «الإسرائيلية» أن تقرراه بالنسبة لأعداد اللاجئين.
وللمرة الثالثة في رسالته ينطق الأمين العام للأمم المتحدة بالحق عندما يعيد أسباب إطالة أمد القضية الفلسطينية إلى «عجز» المجتمع الدولي عن فرض الحل العادل لها، فيقول: «إن المسؤولية حيال الطبيعة التي طال أمدها للجوء الفلسطيني، والعدد المتزايد من اللاجئين ونمو الاحتياجات، تقع بشكل واضح على عاتق غياب الإرادة أو عدم القدرة المطلقة للمجتمع الدولي وللأطراف على التوصل إلى حل تفاوضي وسلمي للنزاع بين (إسرائيل) وفلسطين، وأن «محاولة جعل «أونروا» إلى حد ما مسؤولة عن إدامة الأزمة، هي محاولة غير منطقية في أحسن الأحوال».
لكن الصواب جانب الأمين العام عندما اعتبر قضية اللاجئين الفلسطينيين «قضية إنسانية» وأن «تسييس» «أونروا» ومساعداتها وقع في الخطوة الأمريكية الأخيرة، لأن التسييس واقع منذ البداية وموجود في بنية قرار التأسيس. ولو لم يكن هذا صحيحاً، لما استمر عمل الوكالة كل هذه السنين. ويخطئ مجدداً عندما يقول: «لقد ظهر واضحاً على أية حال أنه متصل بالتوتر بين الولايات المتحدة وبين القيادة الفلسطينية في أعقاب الإعلان الأمريكي بشأن القدس»، لأن الخلاف مع الولايات المتحدة أقدم من ذلك. لكنه أصاب عندما اعتبر «الإعلان الذي صدر يشكل تحديا إضافياً لمبدأ أن التمويل الإنساني ينبغي أن يبقى بعيداً عن التسييس، وأنه يخاطر بتقويض أسس النظام الدولي متعدد الأطراف والنظام الأساسي»!
لكن الغرب الاستعماري الذي أقام دولة (إسرائيل) تحت «راية» الأمم المتحدة وبقراراتها، أضمر الشر و«تمويت» القضية، وتوطين اللاجئين في أماكن تواجدهم. والدليل أن كل السنوات الماضية، وكل القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لم تحقق شيئاً لحل الصراع!
هل احتمالات التصعيد أعلى من احتمالات الاتفاق مع غزة؟
ناصر ناصر
أثارت تقديرات جيش الاحتلال الإسرائيلي المنشورة في الرابع من الشهر الجاري حول ارتفاع احتماليات التصعيد عن احتمالات الاتفاق أو ما يسمى (هسداراه) مع قطاع غزة، العديد من التساؤلات المهمة، خاصة أنها جاءت في ظل الهدوء النسبي الذي يسود حدود غزة، حيث تقلصت الطائرات الورقية والبالونات الحارقة ومعها محاولات اختراق السياج الفاصل، وتقلص أو تراجع معها أيضا وكما كان متوقعا مساعي وجهود وتحركات التهدئة لصالح محاولة مصرية تبدو فاشلة لتقديم المصالحة الفلسطينية على اتفاق التهدئة النهائي، فما الذي دفع الجيش لنشر هذا التقدير؟ وما هي معانيه؟
لا يعني هذا التقدير على الأرجح أن الحرب الواسعة مع غزة أصبحت قاب قوسين أو أدنى، أو أن الخيار المفضل لـ(إسرائيل) هو التصعيد، إنما جاء للإشارة لحجم الصعوبات التي تعترض طريق بقية مراحل الاتفاق مع غزة، وخاصة عقبة أبي مازن وإصراره على وضع شروط غير منطقية للمصالحة أو لتسهيل الاتفاق، وكذلك عقبة إعادة أو حل مشكلة الجنود المحتجزين في غزة، والتي تسببت في الآونة الأخيرة بالمزيد من الضغوطات الحقيقية على الحكومة في (إسرائيل).
يحمل هذا التقدير أيضا في طياته رسالة للداخل الإسرائيلي مفادها أن جيشكم قوي، وهو مستعد لكافة الخيارات بعكس الانتقادات المتزايدة لموقفه من ضرورة تجنب التصعيد مع غزة، ولاستعداده المبدئي للحرب نتيجة ضعف في وحداته البرية، كما جاء في تقرير مراقب ديوان مظالم الجنود "الجنرال بريك".
يوضح هذا التقدير النتائج المحتملة للموقف الاسرائيلي الذي أكده نتنياهو مرارا و تكرارا أنه لا يمكن إنجاز ترتيبات أو اتفاق نهائي (هسداراه) مع غزة دون حل مشكلة الجنود المحتجزين في غز، وهو يحمل في نفس الوقت رسالة لحماس أن "إسرائيل" قد تفضل خيار التصعيد على خيار الخضوع لمطالبها العالية في موضوع الجنود. وهو موقف يشكل نقطة انطلاق للتفاوض على الأسرى سيتغير مع الوقت.
من غير المرجح أن تسمح "إسرائيل" وخاصة المستوى الأمني العسكري فيها لاستمرار حالة ما يبدو للمراقب من الخارج كجمود في تقدم عملية الاتفاق مع غزة، وما يرافق ذلك من معاناة إنسانية ترفع احتمالات عودة التصعيد، لذا فقد يتم ابتكار وسائل وطرق لكسب المزيد من الوقت كالمزيد من العروض والوعود والمقترحات على أمل حدوث تطورات تخدم الموقف الإسرائيلي لاحقا. لكن الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة واعية ومدركة لمثل هذه الاحتمالات.