هناك أسبابٌ عديدةٌ لتأسيس الدولة في العصر الحديث، والدولة الحديثة وليدة عصر القوميات الذي عرفه الغرب حديثا، حيث يعود تأسيس الدول النهائي إلى نهاية القرن التاسع عشر، لكن خريطة أوروبا لم تكن نهائية، بل شهدت تعديلاتٍ نتيجة الحروب في القرن العشرين، والتي أعادت رسم خريطتها. ولكن بقيت القومية، على الرغم من الاختلافات بشأن الأساس المكوّن للدولة الحديثة. وفي جميع حالات بناء الدولة الحديثة، تم بناء هذه الدول من الشعوب التي كانت تقطن الإقليم الجغرافي التي تشكلت عليه هذه الدول.
في حالاتٍ خاصة، تم تأسيس الدولة بطريقة مختلفة، عن طريق الهجرة، حيث بنى المستوطنون دولهم على حساب الشعوب الأصلية، ومثال هذه الدول معروفٌ ومحدّد، وهي الولايات المتحدة ودول أميركا اللاتينية، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وإسرائيل. في هذه التجارب، نجحت أقلية في بناء دولتها على حساب الشعوب الأصلية، سواء بالإبادة أو بالطرد، أو بالاثنين معا.
تشكّل (إسرائيل) تجربة خاصة، حتى بالنسبة إلى التجارب الشبيهة، فهي التجربة الوحيدة التي ليس فيها دولة استعمارية أو تصدر المستوطنين إلى مستعمراتها، فقد جاء سكانها من عشرات الدول، في وقت كانت بريطانيا تحتل فلسطين، الموقع المختار للمشروع الصهيوني. بالطبع، هناك خلاف واسع بين الباحثين العرب بشأن توصيف "دولة إسرائيل"، هل هي دولة متشكلة؟ أم دولة في طور التشكُّل؟ أم تفتقد إلى مقومات الدولة، وهي مجرد موقع استعماري متقدم؟... إلخ. من الأسئلة التوصيفية لطبيعة الوجود الإسرائيلي على الأرض الفلسطينية، هذا ليس موضوع هذا المقال، موضوعه هو البحث عن العوامل الرئيسية التي أدت إلى قيام إسرائيل في العام 1948، بصرف النظر عن توصيفها، دولةً مكتملة أم ناقصة، أم ثكنة متقدّمة.. إلخ.
يُعيد باحثون تأسيس دولة (إسرائيل) إلى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية العام 1897، وهو المؤتمر الذي أعلن تأسيس المنظمة، من أجل إقامة "الدولة اليهودية" تماشيا مع المد القومي الذي ساد أوروبا القرن التاسع عشر. ويعيد آخرون هذا التأسيس إلى "وعد بلفور"، وهو الوعد الذي أعطته بريطانيا للورد روتشيلد في العام 1917، ووعد به بإقامة "دولة يهودية" في فلسطين.
هل يمكن اعتبار المؤتمر الصهيوني الأول، أو وعد بلفور، أو كليهما، الحدث المؤسس لدولة (إسرائيل)؟ لا شك في أنهما حدثان مهمان في سياق المشروع الصهيوني، وفرضه على الأرض الفلسطينية، لكنهما لا يرقيان إلى مستوى الحدث المؤسس لدولة إسرائيل. وإذا كانت نبوءة مؤسس الحركة الصهيونية وصاحب كتاب "الدولة اليهودية"، تيودور هرتزل، بعد المؤتمر الأول، بالقول إنه يرى "إقامة الدولة اليهودية بعد خمسين عاما"، وقد تطابقت النبوءة مع قيام دولة (إسرائيل)، لكن الحقائق التاريخية تقول إنه عندما عُقد المؤتمر الصهيوني الأول، لم تكن هناك معطيات متوفرة يمكن أن تؤدي إلى قيام دولة إسرائيل، على الرغم من نبوءة هرتزل. بل على العكس، كانت المعطيات الأساسية تعمل ضد فكرة "الدولة اليهودية" وضد الصهيونية أصلا. فلم تكن التجمعات اليهودية في أوروبا، في أغلبيتها الساحقة، مؤيدة للفكرة الصهيونية، بل كانت معارضة لها بشدة. وكان الصهاينة أقلية ضئيلة بين اليهود، فقد كانت عوامل دمج اليهود قائمةً على قدم وساق في المجتمعات الغربية، وكان هناك تيار يهودي رئيسي يؤيد الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها.
وعلى الرغم من خطورة وعد بلفور في تاريخ تأسيس دولة (إسرائيل)، لا يمكن اعتباره حدثا مؤسسا للدولة، فقد أعطت بريطانيا هذا الوعد لحاجتها إلى جهود اليهود في الحرب العالمية الأولى. وكان يمكن أن يتحول إلى حدث أرشيفي في التاريخ البريطاني، لولا المعطيات التكوينية التي أدّت إلى قيام إسرائيل بعد ذلك التاريخ.
يمكن اعتبار المعطيات التكوينية لدولة (إسرائيل) قد تشكلت ما بين الحربين العالميتين، وخلال الحرب العالمية الثانية تحديدا. ففي هذه المرحلة، ولدت كل المعطيات التي جعلت من المشروع الصهيوني ممكنا، وهي معطيات أوروبية محضة، فمع صعود النازية إلى سدة الحكم في ألمانيا في الثلاثينيات من القرن العشرين، تبيّن، وبشكل حاسم، أن إمكانية دمج اليهود في المجتمعات الغربية مجرد وهم، وعادت "المسألة اليهودية" تطرح نفسها بقوة، لأن النازية هي تجلٍّ من تجليات الفكر القومي الأوروبي الحديث، وإنْ كانت بأبشع صوره، لكنها نتاج المخاضات الحديثة.
وبالتالي هناك مشكلة أوروبية تحتاج إلى حل، وهي "المشكلة اليهودية"، وبات واضحا لليهود الأوروبيين أنهم مهدّدون في أوروبا، وغير مرغوب فيهم. وبحكم هذه العوامل الأوروبية البحتة، بدأت قطاعات واسعة من اليهود تميل إلى تأييد "الدولة اليهودية"، بوصفها ملجأ من الاضطهاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، باتت أوروبا تؤيد وتدفع باتجاه هذا الحل، من أجل الخلاص من المشكلة المتوطّنة داخلها، بإنشاء دولة لليهود خارج نطاق أوروبا. فكانت "الدولة اليهودية"، وبالتالي دولة (إسرائيل9، حلا لمشكلة أوروبية ولدت داخل أوروبا. ولكن بحكم الواقع الاستعماري، استطاع الغرب، وفي مقدمته بريطانيا، أن يجعل المنطقة العربية، وفلسطين خصوصا، تدفع ثمن حل هذه المشكلة، والتي تم حلها على حساب الشعب الفلسطيني.
لم يكن نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين حتميًّا، وكان يمكن أن يفشل، مثل المشروع الاستيطاني في الجزائر أو في جنوب أفريقيا. وأن نجاحه في تكريس نفسه في المنطقة جاء بفعل عوامل استجدّت بعد المؤتمر الصهيوني، وبعد وعد بلفور. ولكن هناك قراءات تعيد النظر في الأحداث التاريخية بناءً على أحداث وقعت لاحقا. وفي تأسيس دولة (إسرائيل)، هناك كثير من هذه القراءات، وهي ممكنةٌ في هذه الحالة، بحكم التعقيدات الشديدة التي شابت تاريخ هذه القضية الفلسطينية، وتأسيس دولة إسرائيل. وأعتقد أنه من دون النازية (يمكن اعتبارها القابلة التي ولّدت دولة إسرائيل)، ومن دون المعطيات التي وفرتها الحرب العالمية الثانية، ما كان لـ(إسرائيل) أن ترى النور في المنطقة. وبالتأكيد، لا يمكن إغفال مسؤولية التقصيريْن، الفلسطيني والعربي، في مواجهة هذا المشروع، وهذا مجال بحث آخر.