كان أولادي يستغربون في صغرهم عندما أقول لهم: "إنني حفظتُ لكم صفة اللاجئ في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فأصبح لكل واحد منكم رقم دولي يحمل صفتكم، فعلتُ ذلك لتتذكروا دائمًا وطنكم ومنابتكم الأولى، وتترافعوا بقوة أمام العالم للمطالبة بحقكم في العودة، واسترداد الأرض المغصوبة، والتعويض عن حقبة الاحتلال والظلم".
هناك كثيرون في مخيمات اللجوء داخل فلسطين وخارجها يعتمدون على مساعدات وكالة (أونروا) في حياتهم وعلاجهم وتعليمهم وعملهم، فهذه الوكالة لم تمثل لهم سندًا في المحنة الأولى فحسب، بل كانت عونًا دائمًا في مواسم الضيق المتصلة التي لا يزال الاحتلال الصهيوني السبب الأول فيها.
تنسحب أمريكا عمليًّا من ملف اللاجئين الفلسطينيين بقطع مساهمتها في ميزانية (أونروا)، وقد كانت مساهمتها هذه جزءًا من إستراتيجيتها للتأثير في الملفات الإستراتيجية الفلسطينية، ومنع عودة الشعب الفلسطيني المهجّر إلى أرضه التي أُبعِد منها مُكرهًا، لكنها اتجهت الآن إلى إلغاء دورها الذي يحمل تزويقًا "إنسانيًّا"، لتضع الجميع أمام الواقع العاري أن الولايات المتحدة لم تكن يومًا في صف فلسطين، بل كانت في ظهر الكيان العبري وعن يمينه وأمامه.
الوكالة لا تزال تحمل رمزية سياسية لنكبة اللاجئين، وبذلك إن الخطوة التالية ستتجه إلى تصفيتها سياسيًّا، بعد تجفيف مواردها المالية، أو إغراقها بالديون والأزمات، وإظهار فساد موظفيها الدوليين الذين يتقاضون مخصصات عالية وعمولات كبيرة، لاسيما أن صلاحية تغيير طبيعة ومناطق عمل الوكالة من اختصاص الجمعية العامة للأمم المتحدة التي منحت (أونروا) التفويض على وفق قرار 302 الصادر عام 1949م.
وفي الطريق إلى هذه التصفية ستعمل الإدارة الأمريكية على تقليل أعداد اللاجئين إلى بضعة آلاف طاعنين في السن وقع عليهم التهجير المباشر، وستحرم عائلاتهم التي ولدت في المخيمات والمعسكرات هذه الصفة الدولية التي تضمن لهم بعض حقوقهم، وهذه الذرية التي وقع عليها هذا الظلم تعدّ بالملايين، ولا تزال مخيماتهم قائمة تعجّ بمشاهد الحياة القاسية رغم تدمير العشرات منها في الحروب التي ضربت المنطقة والأزمات الأمنية المفتعلة.
هذا القرار الأمريكي مطلب إسرائيلي قديم متجدد، ولكنه جاء في توقيت صعب تعاني فيه المنطقة من استنزاف أمني ومالي وسياسي، ولهذا القرار عواقبه الخطيرة على اتجاهات مجتمع اللاجئين الذي سيبحث عن خيارات صعبة للتعويض عن خسارته الكبيرة، وهي خيارات متعددة الاتجاهات خطيرة الحسابات على الجميع؛ فالدمار -مثلًا- قد لحق بمعظم مدارس الوكالة في سوريا، فمن أصل 28 مدرسة في مخيم اليرموك بقي أربعة فحسب، وقطاع غزة يعاني من أصعب ظرف اقتصادي يمر به بعد موجة حصار إسرائيلية وعربية وفلسطينية رسمية زادت على عشر سنوات، ويصارع الإنسان الفلسطيني بغضب للبقاء حيًّا.
هذه الحرب على موارد الحق الفلسطيني ستجعل الوضع أصعب جدًّا مما كان عليه، لكننا نعلم أن كثرة الحرائق ستؤدي إلى امتلاء الأرض بالرماد، وهو البيئة الخصبة لميلاد الفينيق الأسطوري الفلسطيني من جديد بشخصية أشد عنادًا وجاهزية للمقاومة.