في مثل هذه الأيام من عام 2005، انسحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة ضمن خطة الانفصال أحادي الجانب التي أعلنها رئيس الوزراء أريئيل شارون.
ورغم أن هناك الكثير مما قد يقال في دوافع هذا الانسحاب، سواء كان تحت ضربات المقاومة، التي كبدت الوجود الإسرائيلي في غزة أثمانا باهظة، أو لاعتبارات إسرائيلية بحتة تسعى للتخلص من العبء الذي تشكله غزة، فإن هناك الكثير من التبعات القاسية لهذا الانسحاب على الإسرائيليين، لا سيما في ظل هذه الأجواء التي ما زالت غزة تشكل خلالها صداعا مزمنا لهم.
يعترف العديد من جنرالات الجيش الإسرائيلي، أن الانسحاب من غزة، مثل تراجعا إسرائيليا حقيقيا أمام المقاومة، مما شكل بنظرهم تآكلا لقوة الردع العسكرية، وبالتالي تجرَّأ الفلسطينيون والعرب على هذه الدولة التي استطاعت أن توفر قوة ردع أمام الجيوش النظامية طوال أكثر من نصف قرن من الزمن.
والدليل على ذلك أنه بعد ثلاثة عشر عاما من الانسحاب من غزة لم تهنأ إسرائيل بالراحة، على العكس من ذلك، فقد حل في المشهد القائم صورة جديدة خلال أقل من عام، وهي رعب الأسير الإسرائيلي "غلعاد شاليت"، وتبعه "شاؤول أرون وهدار غولدن"، ورعب سديروت إزاء رعب بيت حانون، ونار صاروخ القسام إزاء نار المدفعية، وحلقة مفرغة من العنف الذي يزيد العنف، والقتل الذي يعاظم القتل.
وبات هناك إحساس إسرائيلي متزايد بأن وحل غزة حل محله وحل حدود غزة، وحدود هدوء أصبحت حدود عدم سلام، وغياب الأمن، وبالتالي فإن النظرة الحقيقية لفكرة الانفصال لا تعني سوى أنه هرب تحت النار، وخضوعا ومشجعا للمقاومة.
يؤكد أصحاب هذا الرأي من الإسرائيليين أن فكرة الانفصال فشلت، لأنها لم تنبع من تحليل إستراتيجي عميق، بل من أزمة سياسية وشخصية لشارون في ظل تعاظم المشاكل الأمنية أمامه، ولأن من دبروها وقادوها لم يكونوا ذوي خلفية إستراتيجية وأمنية وسياسية وتاريخية، لقد كانوا مستشارين فارغين، ذوي ألاعيب، وما فعلوه هو إدخال إسرائيل في فقاعة وهمية مفصولة من الواقع بحيلة إعلامية ضخمة أخذت الآن تتفقأ حيال أعيننا.
ويعدد المعارضون الإسرائيليون للانسحاب من غزة الأخطاء التي جنتها إسرائيل من هذه الخطة "الخطيئة"، ومنها ضياع جميع الأملاك التي جمعتها إسرائيل في سنوات الحرب، والإفضاء لفوز حماس في الانتخابات، وتغذية النضال الفلسطيني لسنين طويلة، كما أسفر الانسحاب عن نشوء إحساس عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين بأنه يمكن الانتصار على إسرائيل، لأنها في الحقيقة مجتمع خيوط عنكبوت، أو شجرة متعفنة كما يصفونها.
أخيراً.. فإن الانسحاب من غزة الذي صوره الفلسطينيون أنه هروب تحت نار المقاومة، لم يضر بالإسرائيليين إضرارا شديدا فقط، بل أضر أيضا بالإستراتيجية الأميركية الإقليمية لمحاربة "الإرهاب"، ونشأ إحساس عند الإسلاميين بأنهم كما هزموا السوفييت في أفغانستان، فإنهم هزموا الإسرائيليين في غزة، وسيهزمونها في الضفة الغربية وتل أبيب أيضا!