على المستوى الدعائي الداخلي، دونالد ترامب ماهر وذكي! وبرغم شن قطاعات واسعة من الإعلام الأمريكي لهجمات دعائية متلاحقة على الرجل، إلا أنها، حتى اللحظة، لم تستطع تأجيج مشاعر شعبية كافية تعبر عن رفض لحكمه، أو طريقة مقاربته للسياستين الداخلية والخارجية. وقد نتساءل عن السبب؟ خاصة وأن المتداول حالياً احتمال عزله من منصبه الرئاسي.
هنا علينا التفريق بين الملفات الداخلية والخارجية في السياسة الأمريكية، وعلاقة وسائل الإعلام بها، وطبيعة الدعاية التي قد تتجلى. فالمعروف أن الإعلام الأمريكي لا يعارض توجهات الرئاسة في الملفات الخارجية، ولكنه يواجهها بشراسة عندما يتعلق الأمر بقضايا داخلية. وبالاعتماد إلى هذه القاعدة العلمية التي لا تجد من يتحداها حتى اللحظة، نستنتج صعوبة توظيف رعونة "ترامب" خارج الحدود لتحقيق مكاسب دعائية داخلية ضده؛ فالجمهور الأمريكي بطبيعته لا يهتم بتطورات الخارج، التي بدورها لا تشكل عاملاً حاسماً في توجهاته الانتخابية. إذاً، نستطيع القول، إن العوامل الداخلية هي التي تحدث فرقاً حقيقياً على مستقبل ومصير أي سياسي أمريكي.
ولو عرضنا لعدد من الحقائق على المستوى المحلي، وأشرنا لجملة الفضائح التي تعصف بسيد البيت الأبيض، فإن ذلك لن يعتبر كافياً لتنبؤ مصيره "المحتوم" بالعزل. فالأمر أعقد من ذلك بكثير. فالرئيس الأمريكي، وعلى مستوى خطابه الدعائي الداخلي، إضافة إلى نوعية قراراته التنفيذية التي تستهدف المواطن، استطاع مراكمة تأييد شعبي، خاصة بين فئات العمال والتجار والمزارعين واصحاب المهن، ناهيك عن مؤسسات التجارة العملاقة. وفي تحرك يجمع بين دعايتي الكلمة والفعل، وثق "ترامب" لرابطة أقوى مع هذه القطاعات من خلال المحافظة على مصالحها، ومراعاته حاجتها للربح، في انسجام تام مع مُثل أمريكية عليا، تقف الحرية الاقتصادية ورأس المال في مقدمتها.
ولكن، ماذا يعني ذلك؟ الأمر ببساطة أن الإعلام الأمريكي لن يتمكن من "ترامب" بسهولة، طالما أن شعبيته لم تتأثر. وبالتالي، فإن هذه الحقيقة، التي تثبتها مراكز استطلاع رأي معتبرة، لن تدفع الحزب الجمهوري الى التخلي عن "ترامب"، أو التوحد مع الحزب الديمقراطي لعزله. فقط حالة واحدة يمكن أن تشكل فرقاً، تتمثل في انحسار التأييد الشعبي للحزب الجمهوري، وتحقيق غريمه الديمقراطي لنتائج قوية في انتخابات التجديد النصفية للكونجرس، ما يقودنا إلى سيناريو أعزل، هو بدء إجراءات عزله بمبادرة من الحزب الديمقراطي، وبتواطؤ من الجمهوريين، بشرط أن يشعر الجانب الأخير بخطورة وجود "ترامب" على حظوظه المستقبلية.
ولأن "ترامب" يعي هذه المعادلة جيداً، جاءت كلماته الأخيرة لتعبر عن مدى ثقته بالشعبية التي يحظى بها بين الأمريكيين. فهو ربط بشكل متعمد بين حديث عزله ومستقبل الفرد، من خلال الإشارة إلى الفقر والبطالة التي سيتعرض لها، حال اتخذت إجراءات بحق رئيسه الذي يرعى مصالحه؛ وهنا يحاول "ترامب" التوحد مع الطبقات الوسطى والدنيا داخل المجتمع الأمريكي، ليستحث تيارا شعبيا يرفض التعاطي مع مستقبل مجهول غير معلوم التضاريس.
وأخيراً، "ترامب" ليس حاكماً توليتارياً يبيع الوهم للمواطن الأمريكي، ولا ديماغوجياً يستغل بساطتهم ثم يتركهم لمصيرهم. هو ليس أعرابياً أو شرق أوسطي؛ هو باختصار يعد وينفذ ما يقول فعلاً. وهذه الحقيقة قد تبدو حجر عثرة أمام محاولات "دعائية" لا ينفك الإعلام الأمريكي يسلكها للإطاحة به.