ليطمئن الفلسطينيون، ولا داعي لتصريحاتهم الكلامية الملتهبة بالنيران الحارقة ضد صفقة القرن، ناموا ولا تستيقظوا، فصفقة القرن أحرقها اليمين الإسرائيلي الذي لا يرى بأرض الضفة الغربية إلا البيئة الطبيعية لميلاد الديانة اليهودية مرة ثانية، لذلك أقنع أقطاب اليمين الإدارة الأمريكية بالتلكؤ في طرح صفقة القرن، فكان تأخير طرح الصفقة مرة تلو المرة ولأكثر من عام جزءاً من السياسة الإسرائيلية؛ التي أخذت من الإعلان عن صفقة القرن ما تريد، وتركت من خلف ظهرها ما لا تريد من حلول سياسية تباعد بين أطماعها وبين ما تمارسه على أرض الواقع، فالسياسة الإسرائيلية لا تقوم على الشلل، ولا تعتمد الانتظار منهاجاً في تعاملها مع الأحداث، فمنذ قيامها كياناً غاصباً في المنطقة وإسرائيل تعرف ما تريد، وتنهج أقصر الطرق لتحقيق ما تريد.
إن كل ما طلبته إسرائيل من صفقة القرن قد تحقق، لقد طالبت بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وتحقق لها ذلك، وقبل ذلك طالبت باعتراف أمريكي بالقدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وتحقق لها ذلك، وطالبت بإسقاط قضية اللاجئين من خلال تقليص الدعم الأمريكي للأونروا، وطالبت بالاعتراف الأمريكي بغور الأردن حدوداً شرقية لإسرائيل، وتحقق لها ذلك، وطالبت ببقاء المستوطنات اليهودية، وترسيخها قاعدة سكانية قوية لا يجرؤ أي سياسي أمريكي أو أوروبي على المطالبة باقتلاعها، وتحقق لها ذلك، وطالبت بإغلاق ملف المفاوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفتحت ملف التسوية من خلال الدول العربية، وقد تحقق لها ذلك، وطالبت بتحقيق التهدئة مع المقاومة في قطاع غزة، وهي في الطريق إلى تحقيق ذلك، وأزعم أن هذا أقصى ما تريده إسرائيل من صفقة القرن، التي ألقى بها نتنياهو في "سلة الزبالة"، حين سئل قبل يومين في ليتوانيا عن صفقة القرن فقال: لا أرى في هذه المسألة أمرا ملحاً!!!.
نتانياهو لا يرى بصفقة القرن أمرا ً ملحاً، ولا يرى ضرورة لأي تحركات باتجاه المفاوضات من أي طرف كان، فهذا الواقع القائم في الضفة الغربية هو الأنسب لسياسة نتانياهو، واستطاع من خلاله تحقيق أطماعه في الضفة الغربية، لذلك قطع نتانياهو بهذه الجملة كل قواسم العمل المشتركة بين اليهودي جيسي غرينبلات واليهودي جارود كوشنير، واليهودي ديفيد فريدمان، وهمالأمريكيون الثلاثة المكلفون بصياغة صفقة القرن وتسويقها في المنطقة، بل وعزز نتانياهو من تعليماته إلى اليهود الثلاثة بحرق أوراق صفقة القرن نهائياً، حين قال عنها: عندما نرى العرض، بوسعنا أن نحكم عليه، وكأنه بتلك التعليمات الفوقية يقطع الطريق على تصريحات ترامب التي طالب فيها الإسرائيليين بتقديم تنازلات مؤلمة بعد أن تلقوا أكبر هدية منه، وهي إسقاط ملف القدس عن طاولة المفاوضات.
إسرائيل لا تريد مفاوضات، سفراؤها في الدول العربية من أنشط السفراء، وجيشها في الضفة الغربية ينعم بالأمن الذي لم يحلم به عبر التاريخ، وحدودها مع غزة المشاغبة على وشك الهدوء، وأهل غزة الذين ذبحتهم عقوبات السلطة أضعاف ما أوجعهم الحصار الإسرائيلي، منشغلون بأنفسهم، والقدس شطبها ترامب، فعن أي مفاوضات يفتش نتانياهو، وأي مفاوضات تلك التي تتوافق والأطماع الصهيونية؟ أي مفاوضات تلك التي ستعرقل ما وصلت إليه التوسعات الاستيطانية؟ أي مفاوضات تلك التي ستعجب المجتمع الإسرائيلي الذي أظهرت آخر استطلاعات الرأي رفضه للوجود الفلسطيني، ورفضه لدولة فلسطينية، ورفضه لأي انسحاب من الضفة الغربية؟ وأي مفاوضات تلك التي تتعارض مع قانون القومية؟
فاطمئنوا أيها القادة الفلسطينيون، فأنتم لم تسقطوا صفقة القرن، ولا حيلة لكم بإسقاط جندي إسرائيلي واحد يعترض طريق تنقلكم على الحواجز، ولا حيلة لكم بوقف تحرك مستوطنة يهودية تتوسع في مستوطنة عشوائية واحدة، اطمئنوا يا قادة، الذي أسقط صفقة القرن هو اليمين الإسرائيلي الذي لا يريد حلولاً للقضية الفلسطينية خلافاً لما خطط لذلك من سنين.
واقرؤوا أيها القادة الفلسطينيون ما ورد في يوميات ديفيد بن غوريون، بتاريخ 14/7/1949، حين قال: كنت أفتش عن السلام مع العرب حين جاء إلى مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة أبا ايبان، وقال لي:
لا ضرورة لكي تركض إسرائيل وراء السلام مع العرب!! فالهدنة تكفينا نحن الإسرائيليين، فإذا ركضنا وراء السلام فإن العرب سيطلبون منا ثمناً، سيطلبون منا حدوداً معترفاً بها، وسيطلبون منا عودة لاجئين، أو سيطلبون منا كليهما، لذلك علينا أن نكتفي بالهدنة، وننتظر بضعة أعوام، نحقق خلالها ما نريد، وبعد ذلك لكل حادث حديث!!.
فما رأي القيادة الفلسطينية، هل تحققت أحلام أبا إيبان، أم ما زالت بحاجة إلى بعض الوقت؟؟