للعيد في السجون الإسرائيلية طقوسه الخاصة.. وتختلط المنغصات بالتحديات، وسر المنغصات هو ارتباط الأشياء بمترادفات لها ومتناقضات خارج السجن فتثير عواصف الذكريات .
ومن أشد منغصاته وأكثرها وطأة على القلب أن أشد الناس عداوة لكل القيم الانسانية يصرون على قصف الاسرى بعيارهم الثقيل حتى في يوم العيد، فأول ما يفتح الاسرى عيونهم عليه صبيحة هذا اليوم وقبل أن يؤدوا صلاة العيد هو العدّ الصباحي، هكذا يعدون كم رأسا في كل غرفة تماما كما يعد اللحام رؤوس الاغنام عنده استعدادا ليوم الذبح الاكبر .. في هذا اليوم تذبح مشاعر الاسرى على مذبحهم بغير حساب. العدد يشعر المعتقلين أنهم مجرد عدد. أناس من لحم ودم وروح ومشاعر وطموح وآمال وآلام وافكار وحزن وفرح وهدف ورسالة وقضية. كل هذه العوالم في مجموعها لا تعدو كونها رقما. ينظرون الى الرؤوس ويعدونها تماما كما ينظر الجزار الى الرؤوس التي أعدها للاضاحي .. الفارق ان هذا الجزار يفصل الرأس عن الجسد في لحظة واحدة بينما ذاك يتلذذ على مر سنين طويلة وهو فاصل لهذا الجسد عن حياته خارج هذه السجون ومبقيا لحبل سري واهٍ يديم أوار المعركة .
وتثور مع هذا العدّ عدد سنوات سجنه وأنه في هذه اللحظة يستعد للتضحية بسنة جديدة من عمره، يضحي بها ويذبحها على مذبح الحرية، وهكذا تمضي كما مضت سنوات سبقتها من عمره، نائل البرغوثي يستذكر الآن مع لحظة العد في صبيحة عيد الاضحى ثمانية وثلاثين سنة تم ذبحها سنة وراء سنة في مثل هذا اليوم. كريم يونس يستذكر ستًّا وثلاثين سنة، وكلٌّ تمر عليه سنوات أسره سنة وراء سنة .. الفرق أن المضحي خارج السجن يفرح بتمكنه من الاضحية التي جمع لها مبلغا ميسرا من المال ، بينما أسيرنا يرى أضحيته سنة مرت عليه بعذابات ومرارات وتحديات قاسية تجرعها على مدار عام كامل ، يرى قهرا طويلا كأنه الدهر وصخورا أزاحها عن صدره الواحدة تلو الاخرى على مر الايام التي تعاقبت طيلة العام . يرى السنة بعدد المرات التي أشير على رأسه فيها وهم يقومون بلعبتهم المفضلة المسماة : عدد ، هكذا يمرون على رأسه بسبابتهم دون النظر أو الانتباه الى ما في داخل هذا الرأس، عقل بشري أم شيء أصم.. مناضل يحمل قضية أم سجين جاء بتهمة جنائية؟؟
ثم تبدأ طقوس العيد بعد هذا العدّ اللئيم حيث يخرج الاسرى الى ساحة السجن المسماة فورة، ساحة كئيبة حتما تأخذ بيد أسيرنا وقلبه الى مسجد بلدته حيث الاهل والعشيرة، نفس الوجوه الممتلئة حزنا وألما بينما تلك الممتلئة سعادة وفرحا بملابس بهيجة وحلل تشعرك بالعيد، لا شيء في السجن يبهج قلبك، حتى أنك تجد ادارة السجن وقد استنفرت ووجهت عيون غضبها مهددة متوعدة، مستمعة متنصتة لما سيقول خطيب العيد والويل له إن خرج عن المألوف .. ولكن غالبا ومن عمق هذا التنغيص تأتيك خطبة حرة يعز نظيرها خارج السجون ، وهذه من التحديات التي تعيد نفسية المعتقل الى ما يعيد لجبهته المعنوية نضارتها وقوتها والشعور الممتلئ بالذات التي تحمل قضية ورسالة.. هنا ومع هذه الخطبة الحرة يسقط سحر عملية العدد والقصف القاتل الذي قامت به، يتنفس المعتقل الصعداء ويسمو بروحه ويشعر بوزنه خاصة وهو يرمق عيون من قاموا بالعدد والمتربصين بالقمع والبطش، وهنا يضحي الخطيب بعقاب زنزانة انفرادية اسبوعين او ثلاثة لانه شفى صدور قوم مؤمنين .. أذكر على سبيل المثال معتقلا اسمه موسى دودين خرق قلوبهم وهو يقول في خطبة العيد: " لن نندم على ما فعلنا وان نندم فاننا نندم على أنه كان بامكاننا أن نقتل أكثر ونمعن فيهم الجراح والله لئن عدنا لنعيدها سيرتها الاولى " .. كان ذلك في ساحة سجن هدريم وعيونهم الحاقدة ترقب المشهد وآذانهم تسمع.. يسمعون ويرون ما يبطل سحر عددهم ويرد كيدهم إلى نحورهم ..
وفي مشهد يبدد الكآبة ويجسد روحا انسانية عالية، في مشهد يثير في نفوس السجانين الاشمئزاز من أنفسهم ومما يستبدون برجال أحرار ينتمون لشعب عظيم يستحق الحياة ، يعانق كل أسير في الساحة المائة وعشرين، الكل حلقة واحدة بما يسمى " على الداير يا شباب " وبحركة منتظمة يطوف كل واحد بالترتيب والتواصل على بقية الاسرى .. جسد واحد متحاب ومجتمع على أخوة صادقة لا تشعر الا بمشاعر العيد الجميلة وتستنشق روح الوطن العالية . هكذا يبدد التحدي غيوم التنغيص السوداء ويصنعون من مشاعرهم الجميلة عيدا جزلا ينثر الألق في سمائهم الملبدة بحقد المحتل وكراهيته للحياة .
ويعود الاسرى الى غرفهم ليلتقوا مع عائلاتهم الصغيرة من خلال ألبوم الصور، كل يقلب صور أطفاله وكل يضمد جراحه بطريقته الخاصة، تتدخل الاسرة الكبيرة المؤلفة من مجتمع السجن والتي تتدخل فيها القلوب الجميلة لترأب صدع من تصدع قلبه من الم الفراق ورياح الذكريات: تحضر حلوى السجن بطريقتها الخاصة وفق ما توفر من امكانات: في الكنافة تتبدل الجبنة البيضاء بالصفراء فلا بأس، وعجينة الكنافة بلب الخبز الجاف بعد ان يتم طحنه وتطبخ على بلاطة كهربائية تدور على سطح الصدر لساعات طويلة والقلوب ترمقها خشية أن يشعط باطنها او ظاهرها .. وتصنع كرابيج حلب اذا توفرت البطاطا المسحوقة لتحل محل النشا المفقود ويتفنن أسرى نابلس بالتحديد في صناعة ما لذ وطاب من المدلوقة والنمورة .. تتشابه بالشكل وتختلف بالطعم حسب ما توفر من امكانات. وتقدم بمناسبة العيد السعيد لصناعة فرحة ولو بالتندر والغمز بالجبنة الصفراء التي احتلت مكان البيضاء في الكنافة العسقلانية .
أسرانا ليسوا مصبوبين من حديد صلب، بل هم بشر مرهفو المشاعر، تتحرك مشاعرهم بحساسية عالية، وطول المكث في هذه السجون ومع مرور السنين تجعل منهم قصائد شعرية رومانسية تنقل خطواتها في عالم ضيق بينما تغدو مشاعرهم في أفق رحب واسع بلا حدود، وعيد الاضحى محطة تعصف في قلوبهم بذكريات تضع تضحياتهم في كفة وتحديات السجن بكل منغصاته في كفة ثانية.. وتشتعل روح التحدي على لهيب صحرائهم القاحلة لتقول شعرا وتنسج عنفوانا تجسده الحركة الاسيرة بفعلها التراكمي الملحمي ولتقول مقولتها العالية : لن ننكسر أمام العاصفة..