معاناة يومية تلك التي نعيشها على شبكة فيسبوك! ذات الأفكار والصيغ، نفس الكلمات والتعبيرات، وكأننا داخل حجرة مغلقة، لا يتردد داخلها إلا اصواتنا، ولا نجد ما ننصت إليه إلا صدى أنفسنا؛ ونادرًا ما نصادف من يخالفها أو يتحداها. شبكات التواصل الاجتماعي معضلة مستفحلة، فهي لا تدعم إلا عقلية القطيع، ولا تعزز إلا سلوك الاستقطاب، وقد نبدو سذجًا إذا اعتقدنا خدمتها لوحدتنا الوطنية، أو تماسكنا الاجتماعي، أو حتى ترابطنا الأسري.
والواقع، أن خوارزمية المنصات الاجتماعية تعمل على ربط وتشبيك من يتشاركون ذات المعتقدات والتوجهات، وتقدم لوجبات إخبارية ذات أجندة معينة، كما تنتقي المعلومات والخيارات المعروضة، بعد أن تقوم بتصفية النتائج بشكل يستجيب لسلوكنا السابق معها، سواء عبرنا عنه بالإعجابات والمشاركات، أو بإقامة مختلف الصلات والصداقات. فمثلًا، يقوم فيسبوك على عرض معطيات تتفق مع اهتماماتنا، بحيث يراقب ذكاؤه الاصطناعي نشاطنا اليومي مع المستخدمين، أو يرصد عاداتنا مع صفحات بعينها، ليعمل على استيعابها وحفظها، ومن ثم يترجمها على شكل تغذية معلوماتية تتوافق مع ميولنا.
ولكن، هل حقًا التكنولوجيا مسؤولة حصرًا عن غياب التنوع لدينا؟ الجواب بالتأكيد لا! فأنت بمفردك من يحدد للوسيلة سلوكها معك؛ هي فقط تساعدك على ترسيخ تحيزك وحزبيتك ونزعاتك النفسية. تخيل معي عزيزي المستخدم أن قائمة أصدقائك من لون فكري واحد، فهل تتوقع تنوعًا في الآراء؟ على العكس تمامًا، ما يحصل أن جملة مواقفك ستتصلب لغياب الرأي الذي يتحداها، وإن تعرضت لإحداها مصادفةً، فسرعان ما ستتجاهلها، أو ستخوض معها معركة صفرية لن تنتهي إلا بقطيعة كاملة. هي إذًا دائرة مغلقة، لا تقبل رأيًا منافسًا أو مخالفًا داخلها، تتمدد وتتضخم إلى أن تصبح شبكة متكاملة، تضم مستخدمين مؤطرين، يعيشون داخل أفكارهم الخاصة، ومعزولين إراديًا عن باقي العوالم الافتراضية، وهكذا دواليك.
بدورها، تؤدي هذه الحاضنة المغلقة إلى تفشي ظواهر وسلوكيات سلبية، من شأنها إحداث شرخ اجتماعي، وحالة من الاقصاء الفكري، من الصعب معالجته بمرور الوقت. فالعنصرية، كما أشارت جمعية السيكولوجيين الأمريكية، قد تنتشر بين المستخدمين لدرجة تبني سلوكيات وألفاظ عنيفة بحق المخالف لرأينا وتوجهاتنا. علاوة على ما سبق، قد يضطر العديد من المستخدمين إلى تجنب التعبير عن مواقفهم، وممارسة رقابة ذاتية صارمة في حال شعروا أن أطروحاتهم لن تحظى بتأييد، أو قد تجابه بنقد عنيف من المتابعين. هذه السلبيات، بظاهرها، لا تصب إلا باتجاه تعزيز غريزة وعقلية القطيع، خاصة داخل المجتمعات التي تعاني من حالة انقسام سياسي ومجتمعي عميق.
وأخيرًا، على مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي تنويع قوائم صداقاتهم، وتوزيعها بشكل ثري، وعدم قصرها على لون فكري واحد، فما سقطت الأمم إلا بانحصارها وتقوقعها داخل ذاتها، دون أن تسمح لأفكار الغير بالانسياب إيجابًا.