مرة أخرى، يتجمع غبار التفكير السياسي العقيم، و"الديماغوجيا" التي ابتليت بها القضية الفلسطينية منذ بداياتها، ليحرم هذه المرة رئتي غزة أن تتنفس هواء يعيد إليها الحياة، بعد أن تحولت إلى جسد يعاني الاعتلال نتيجة الحصار الخانق المتواصل منذ أكثر من 11 عامًا.
فمن يصدق بأن اتفاقًا ما للتهدئة بين فصائل المقاومة في غزة والاحتلال الإسرائيلي، بغض النظر عن محتواه، من شأنه رفع الحصار عن غزة، أو تخفيفه؛ أن يواجه معارضة شرسة من جهات سياسية معينة تحت دعاوى مساوقته (أي الاتفاق) ما يسمى "صفقة القرن"، أو أي مخططات ترمي إلى فصل القطاع عن الضفة؟
غاب عن تلك العين الناظرة إلى هذا الاتفاق من زاوية تقاس بوحدة "المايكرو" الكثير من تفاصيل المشهد السياسي والإنساني المتعلق به، والأكثر من ذلك الحقائق المرتبطة بطبيعة المعطى "الجيوسياسي"، حين تستند المناكفة السياسية فيما يدور من جدل بشأن اتفاق التهدئة (قيد البحث) إلى وهم الإحساس بالسيادة، وفي واقع الأمر لا تعدو الحالة سوى اختزال ذهنية الهيمنة والاستحواذ على كامل الطيف السياسي والنضالي الفلسطيني تحت عناوين مختلفة.
من أهم الجوانب الغائبة -بتعبير أدق المغيبة"- تلك الحالة الإنسانية الاستثنائية التي يعيش فيها أبناء القطاع وهم يرزحون تحت وطأة حصار جائر، استمر على مدى 11 عامًا في نهش أجساد أطفال غزة، وحرمان مرضاها جرعة دواء كان بالإمكان أن تحول بينهم وبين الموت، وصناعة الإحباط واليأس لدى شبابها العاطلين عن العمل، وفقرائها وأيتامها وعجزتها، الذين باتوا يتمسكون بالخيوط الأخيرة لحياة مؤجلة.
لم يلتفت معارضو الاتفاق لحظةً إلى أنين المرضى والجياع في غزة، واختاروا الغوص في بحور جدليات المفاهيم السياسية الصماء، وإكمال طريق التنازع السياسي حتى آخره، على جراحات الغزيين الغائرة، ومعاناتهم المفتوحة، حتى تولد لدى أهل القطاع يقين بأنهم منذورون لدفع الأثمان الباهظة دومًا، وبأن قدرهم أن يُستفرد بهم في غمرة تصفية الحسابات السياسية الداخلية، وأن تكون أرضهم -وإن كانت صغيرة المساحة- إحدى بؤر صراعات قوى إقليمية ودولية.
ثمة خطاب سياسي داخلي يريد أن يدفع الغزي إلى لوم نفسه عند اشتهائه أن يعيش حرًّا كباقي البشر، بلا حصار، وألا يخشى قدوم الغد بما يحمله من مجهول مشؤوم، وأن يعيش لوقت ما في سلام داخلي وصفاء مع نفسه، حين يصبح رفع الحصار، وفتح المعابر جزءًا من مؤامرة تصل إلى حد "الخيانة"، وتسير في مسارات "صفقة القرن"، كما يريدها الأمريكيون والإسرائيليون.
من حق غزة أن تنظر مشدوهةً إلى نمط الخطاب "البطولي"، الذي لا يخلو من ملامح التمييز بين أبناء الشعب الواحد، ويعيش فصامًا حين لا يتطابق مع سلوك سياسي شاذ شكّل حلقة مهمة في مسلسل الذهاب بالقضية الفلسطينية إلى حافة الهاوية، بعدما حمل معه العديد من عناوين النشاز كالـ"التنسيق الأمني مع الاحتلال"، و"حرمان الأسرى مخصصاتهم المالية"، و"قطع رواتب شرائح من موظفي غزة"، ومعاقبة القطاع بحزمة من الإجراءات الانتقامية، ومحاولات الاستفراد بالقرار السياسي إلى درجة الوصول إلى حال "العزلة".
غزة التي ظلت تناضل مع باقي بقاع الوطن المحتل، وقدمت عبر سنوات طويلة من النضال الكثير من الدماء، لتبقى في إطار كفاح الوطن الواحد، وأبناء الوطن الواحد، وتكون دومًا السد المنيع في وجه محاولات المحتل لتمزيق الأرض الفلسطينية وفصل بعض أجزائها عن بعض لمنع قيام الدولة، وحرمان الفلسطينيين حقوقهم في تقرير مصيرهم، وعودة اللاجئين إلى ديارهم.
أرادت غزة أن تعبّر عن إنسانيتها فقط، وأن تتنفس الصعداء بعد حصار طويل لم يرحم أي كائن حي، وغير حي، يعيش على أرضها، ألا يحق لها ذلك؟!، ولم لا تنعم ببعض مظاهر الحياة الطبيعية، من فتح للمعابر، وإعادة بناء ما دمر خلال سنوات الحصار العجاف، وإعادة إنشاء البنى التحتية، وتوفير محطات تحلية للمياه، وشبكات للكهرباء تعمل بشكل اعتيادي تضيء منازل الغزيين على مدار اليوم دون انقطاع؟!
إعادة الحياة الطبيعية لغزة في إطار اتفاق التهدئة ضرورة وأولوية قصوى، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال إنهاء مسيرتها في النضال ضد الاحتلال، وإخراجها عن سكة الكفاح من أجل بناء الدولة المستقلة، بل هو تنويع لأدوات النضال واستخدام ما تقتضيه المرحلة منها، وستظل غزة إلى جانب مكونات الوطن الفلسطيني الجغرافية والسياسية والاجتماعية كافة رقمًا صعبًا في حسابات الاحتلال الصهيوني، وحجر العثرة الذي سيقف على الدوام في طريق تنفيذ مخططاته.