كنا ننتقد اتفاق أوسلو لأنه ارتكز على نبذ الإرهاب والتخلي عن المقاومة المسلحة، وكنا نستشهد بالحرب الفيتنامية، حيث كانت المفاوضات وكانت الحرب في ذات الوقت وكذلك الترتيبات التي تمت في لبنان على إثر حرب تموز 2006 لم تشترط التخلي عن المقاومة، وسقط الهدف الاسرائيلي الذي وضعته قبل بدء الحرب وهو نزع سلاح حزب الله، وما يجري اليوم من مناورات حول ترتيبات تهدئة تشمل عدة أمور منها رفع الحصار عن غزة وفتح المعابر وتحسين الأوضاع المعيشية، والسؤال المشروع أو التخوفات التي تلوح في الافق هي حول المقاومة وسلاحها وتوازن الردع القائم اليوم في غزة: ما هو مصيره؟ وماذا عنه؟
هذه علامة فارقة ونقطة هامة، إذ إن أي تخلٍّ أو تراجع بهذا الخصوص يكون بمثابة نزع أنياب الأسد وبمثابة الانتحار السياسي، إذ إننا أمام احتلال يتسلح بكل أشكال القوة ويسعى بكل ما أوتي من قوة أن يكون خصومه ضعفاء الى أبعد الحدود. المشجع في الامر أن المقترحات والمناورات السياسية قد تجاوزت مسألتين خطيرتين، وهما كارثتان وأضرتا بنا كثيرا، وهما الاعتراف بدولة الاحتلال مقابل الاعتراف ليس بمنظمة التحرير وانما الاعتراف بها كممثل للفلسطينيين، وكذلك نبذ الارهاب والتخلي عن المقاومة المسلحة وهذا يذهب الى نزع شرعية المقاومة، وقد اعتبر هذا في اوسلو مثلبة خطيرة وانزلاق كبير وحرف للبوصلة مما أدى الى أن يتحول الى كارثة ونكبة جديدة للفلسطينيين وما نحن عليه اليوم خير شاهد على ما نقول ، ولا تكاد تجد احدا يجادل في هذا الامر حتى ممن كان من أشد الناس مناصرة لاتفاقية اوسلو .
في مناقشات التهدئة وما ستأخذ غزة مقابلها يجري الحديث عن هدنة خمس سنوات وبالتالي تجاوزنا موضوع نبذ الارهاب والتخلي عن سلاح المقاومة وكذلك غير وارد موضوع الاعتراف بالاحتلال او دولته. فالأمر اذا يندرج في تقدير ما ستحققه غزة وفق حسابات الربح والخسارة ووفق دراسة الظرف الموضوعي المحيط بغزة وكذلك الاوضاع المعيشية الصعبة التي عانى منها القطاع طويلا في ظل الحصار المفروض منذ اثنتي عشر سنة، والقيادة الحكيمة تعرف كيف توازن بين المبادئ الثابتة وبين المتغيرات وقدرات الناس وإدارة الإمكانات المتوفرة وتقديرات الظروف المحيطة، فمشروع المقاومة ليس مشروع انتحار أو مجرد اندفاعة لتحقيق الانتقام والرد على غطرسة الاحتلال كيفما اتفق.. بالعكس تماما حسابات مشروع المقاومة دقيقة جدا وتراعي كل هذا بكل دقة واحتراف لأن هناك فرقا بين من يريد ان ينتصر وبين من يريد أن ينتقم .. والأمثلة على ذلك في التاريخ كثيرة منها مثلا لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم ان يكشف ظهر المدينة فيتوجه الى خيبر، حيث كانت بؤرة التآمر على دولة المدينة في الجزيرة العربية الا بعد أن عقد صلح الحديبية مع قريش .. وكما يقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه، هكذا ظهر جيل صلاح الدين أن طرح الشعار دون حساب الإمكانات لجعل هذا الشعار واقعًا، يؤدي إلى الفشل ثم الإحباط وتشكيك الناس في صحة هذا الشعار.
وهنا لا بد وأن نشير إلى موازنة دقيقة، إذ إن المبالغة في حسابات الإمكانات ومتطلبات الظرف والواقع قد تفضي أيضًا إلى التنازل وركون النفس الى تبرير التراجع وعدم الرغبة في التضحية والمواجهة الممكنة، فالمسألة اذا لا تحتمل المغامرة غير المحسوبة ولا التراجع والتخاذل الذي يبالغ في اختلال موازين القوى.. لا أحد يريد الحرب وتعريض القطاع الى المزيد من الاعتداءات الشرسة لاحتلال متسلح بكل أدوات الاجرام وفي ذات الوقت، فقد حققت المقاومة توازن ردع لهذا الاحتلال وحققت انتزاع كرامة غزة من بين براثنه وقضت على توغّل الاحتلال ليفعل ما يشاء يعتقل ويقتل ويقطع الطريق ويعد على الناس أنفاسهم، عزّة غزة التي تحققت بفعل المقاومة وتعمدت بدماء الشهداء لا يمكن التنازل عنها.
فالحرب مطرقة صحيح والتهدئة وتحسين أوضاع الناس ورفع الحصار سندان، والحوار قائم بين هذه المطرقة وهذا السندان بموازنات وحسابات سياسية دقيقة تؤخذ كلها بعين الاعتبار .