تمر الأيام على غزة لتزيد وضعها وحالتها سوءًا وتعقيدًا، ولتزداد شبهًا بالمعضلة الشريرة التي لا يستطيع أحد فك طلاسمها، أو معرفة لسبيل إلى حل ألغازها، فكلٌّ على السواء أضحوا يرون غزة أم المشاكل، وسبب المصاعب.
فالاحتلال الإسرائيلي يرى غزة كشوكة في حلقه لا يعرف كيف ينزعها، أو تخيف حدتها، ومتى حاول اللعب على أوتارها المتعبة أتعبته وأرهقته وأذلته، أما المحيط الإقليمي فيرون غزة عنوانًا للثورة والتمرد، وبؤرة لاشتعال بلدانهم بالحرائق، لأنها الشيء الوحيد الشاهد على مدى ذلهم ووضاعتهم وسفالتهم، فالشعوب ترى في غزة القوة والمنعة، وترى في حكامها الضعف والخور، لذا غزة الخطر الهائل والحقيقي على الأنظمة التي تربت وترعرعت على الذل والهوان.
أما على المستوى الداخلي الفلسطيني فهناك فريقان، فريق السلطة الذي يرى غزة جزءًا من ملكه يجب استرجاعه بأي طريقة كانت، ولو دمر أهلها، وأذاقهم صنوف العذاب والألم، فهم من تمردوا عليه وأخرجوه منها صاغرًا، فلذا على غزة أن تأتيه صاغرة مستسلمة ذليلة كسيرة العين والقلب، أما الفريق الثاني المقاوم فأصحبت غزة عبئًا ثقيلًا عليه نتيجة الأوضاع الإنسانية الصعبة، التي قد تجر المقاومة إلى التنازل عن العديد من الأشياء، ثمنًا لفك حصار أهلها، وتخفيفًا عنهم أوجاع السنين، وآلام الأيام.
وكلٌّ يحاول أن يجذب غزة إلى ناحيته، ويدخلها في حجره ليفعل بها ما يشاء، وغزة لا تدري ماذا تفعل، وكيف تواجه ما يحاك عليها، وبم تصمد وهي التي ذاقت صنوف الحصار والتجويع والتدمير والتخريب، وأصبحت بلا طاقة على مزيد من هذه المآسي والآلام؛ فقد كبر هم أهلها وزاد وجعهم إلى حد لا يطاق بعد الإجراءات الظالمة لها.
ولا أحد يدري من أهل غزة ماذا سيحمل الغد في طياتها، وأي المصائب والكوارث ستحل عليهم في مستقبلهم المجهول، وكيف ستكون صفقة القرن المزمع تنفيذها بقرار دولي وإقليمي ومحلي، وستوجه الضربة القاضية للقضية الفلسطينية، التي ستصبح في خبر كان، وفعلًا ماضيًا لم يعد له وجود على الساحة الدولية والإقليمية، والتحضيرات تجري على قدم وساق، وكل ما نراه من عقوبات وإجراءات إنما هو البداية في سلسلة طويلة، لن تنتهي إلا بشنق القضية الفلسطينية، وجعلها كومة رماد تتناثر في كل اتجاه بفعل الرياح الإقليمية والدولية.
والواقع الفلسطيني مترهل وضعيف إلى أبعد حد؛ فالخلافات الفصائلية تنخر جسده المعتل أصلًا، وتقوض أي محاولة لإنعاشه وإعادته للحياة، وسنين الانقسام العجاف دمرت البقية الباقية من الوحدة الفلسطينية على المستويين السياسي والشعبي، فهناك انفصال خطير على المستويين يهدد الكيان الفلسطيني وينذر بزواله، نتيجة الضعف الداخلي والهجمة المسعورة المسماة صفقة القرن.
فالقضية الفلسطينية الآن في مرحلة أكون أو لا أكون، فإما أن تثبت لنفسها وللعالم أنها قضية لن تسقط أبدًا، مهما تخلى عنها حلفاؤها، ومهما واجهت من عقبات وصعوبات، وإما أن تندثر وتختفي من الوجود، وتصبح أثرًا بعد عين، فالأمر ليس بالهزل بل خطير جدًّا، والكارثة التي تحيط بالقضية الفلسطينية في الوقت الراهن باتت تقترب أكثر وأكثر، وتسفر عن وجهها بشكل فاضح ومكشوف، فلابد من وقفة جادة مع أنفسنا، ومراجعة خططنا وإستراتيجياتنا لمواجهة الكارثة القادمة، والسلام على فلسطين وقضيتها، والسلام على الشعب الذي ضحى بكل شيء في مقابل الحصول على لا شيء.