دأبت السياسة الإسرائيلية على عدم رفع سقف التوقعات من أي تفاوض يجري مع الفلسطينيين والعرب، خشية حدوث انتكاسة في اللحظات الأخيرة، وهي مدرسة تفاوضية ناجحة، حبذا لو استفاد منها الفلسطينيون، وقد حصل ذلك في اتفاق أوسلو في مرحلتيه، وواي ريفر، وبدايات كامب ديفيد، وصولا لمخرجات مؤتمر أنابوليس.
اليوم يتكرر الأمر ذاته في المباحثات الإسرائيلية الفلسطينية المصرية حول التهدئة المتوقعة في غزة، حيث يتعمد الوزراء الإسرائيليون، وبجانبهم المحللون المقربون من دوائر صنع القرار في تل أبيب، أن يخفضوا من الآمال المعقودة على النتائج المأمولة لهذه التهدئة، سواء بالنسبة للفلسطينيين أو الإسرائيليين، أو كليهما معاً.
على الصعيد الفلسطيني، دأبت الماكنة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية على الحديث عن إدخال تسهيلات محدودة وليست مفتوحة على الأوضاع المعيشية في غزة، سواء ما تعلق منها بفتح المعابر التجارية، أو توسيع مساحة الصيد، أو رفع الحظر عن البضائع الممنوعة.
أما على الصعيد الإسرائيلي، فلا ترفع تصريحات المسئولين الإسرائيليين ووسائلهم الإعلامية السقف بشأن المدة الزمنية التي قد تستغرقها هذه التهدئة، أو طي صفحة التوتر الأمني نهائيا، ولا تضع على نفسها كوابح أو قيودا تمنعها من ملاحقة المقاومة، وكبح قدراتها العسكرية.
من المعروف على وسائل الإعلام الإسرائيلية أن لديها هامشا محدودا عند الحديث عن القضايا الأمنية والعسكرية، بفعل الرقابة الصارمة، ولعل ذلك جزء من عدم قدرتها على الكشف عن كل ما تحوزه من معلومات تخص التطورات الأمنية الجارية مع حماس.
لكن الأمر في الأساس يعود إلى رغبة سياسية إسرائيلية بتخفيض أي إنجاز يحققه الفلسطينيون، بغض النظر عن هويتهم الأيديولوجية والفكرية، هذا منهج تفاوضي معتمد، يسعى للعب على أوتار الجبهة الداخلية الفلسطينية، ومحاولة التأثير على الحاضنة الشعبية للمقاومة.
يهدف هذا المنهج التفاوضي الإسرائيلي بالدرجة الأولى إلى إظهار أن ما تم تحقيقه من منجز فلسطيني، والحديث يدور هنا عن التهدئة، لا يساوي التضحيات التي دفعت من أجل التوصل إليه، وقد كان بإمكان الفلسطينيين تحصيله، دون الحاجة لسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا والخسائر.
هناك الكثير من النقاش المسموح حول حسابات الكلفة والجدوى من كثير من الحراكات السياسية والثورية، وهل كان بالإمكان أفضل مما كان، وماذا لو اغتنم الفلسطينيون فرصا سابقة سنحت أمامهم بدل الاستمرار في دفع هذه الأثمان الباهظة من دمائهم وخسائرهم، لكن المراد الإسرائيلي بعيد كل البعد عن الانطلاق في حديثه من الحرص علينا، بقدر ما هي رغبة متأسسة لديه تخفض من شأن أي إنجاز فلسطيني، وتقزم من قيمته أمام الفلسطينيين.