إثارة موضوع نقل السفارة الأمريكية من "تل أبيب" إلى القدس ليس جديدا، وقد عكف الجمهوريون دوما على إثارته سواء عندما يكون الجالس في المكتب البيضاوي منهم، أو عندما يكون الكونغرس أغلبيته بـيدهم، أو غير ذلك.
هذا الموضوع يثير غضبة عربية وإسلامية، وبالتأكيد فلسطينية، تجعل كل الدعم الأمريكي السخي للمشروع الصهيوني يبدو ضئيلا، ولا قيمة له، إذا كانت السفارة ستظل قابعة في مكانها في تل أبيب.. تثور ثائرتنا، وقد تنفجر الأمور فعلا، إذا تحولت التهديدات أو التسريبات إلى واقع ملموس بنقل السفارة، لماذا؟ لأن هذا اعتراف أمريكي رسمي بأن عاصمة الدولة العبرية التي تسمى (إسرائيل) هي القدس، دون أن يكون هناك اعتراف مشابه بأن عاصمة الدولة الفلسطينية هي القدس، ولو الشطر الشرقي منها، بل دون اعتراف أصلا بدولة فلسطين.
أي أن الإدارات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية ستظل تمارس هذه اللعبة إلى ما شاء الله، فتثير جهات رسمية معينة موضوع نـقل السفارة، ولا ينفذ هذا الأمر، في الوقت الذي يستمر فيه الدعم السياسي والعسكري والمعنوي للمشروع الصهيوني، فنمر عن هذا الدعم بتعليق باهت، أو حتى صراخ يرتد صداه إلينا، ونتهم الأمريكان بالانحياز والخضوع إلى اللوبي الصهيوني، ثم نمضي في سبيلنا، حتى يثار موضوع نقل السفارة الأمريكية من جديد فنثور ونغضب، ويشمل الغضب كافة المستويات الرسمية والشعبية.. ألا ترون أن الأمر فيه ابتزاز رخيص، وأن هذه لعبة أمريكية-صهيونية بالغة القذارة؟!
ولكن هذه المرة يثار هذا الأمر بصخب أكثر ربما من المرات السابقة؛ حيث إن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب، ظل أثناء حملته الانتخابية يردد أنه سينقل السفارة، والتعليق المباشر أو المعتاد على هذا الوعد هو أن المرشح عادة ما يطلق وعودا وتعهدات لا يلتزم بكثير منها، خاصة الملفات المعقدة عندما يفوز ويصبح في موقع المسئولية الحقيقية من الناحية السياسية والقانونية والأمنية، فعندها (يلحس) وعوده تلك ويقتفي خطى أسلافه الذين ربما انتقدهم وزاود عليهم، لأنه يكون وقتها قد انطبق عليه المثل الشعبي المشهور "حكي القرايا مش زي حكي السرايا".
ولكن ترامب زاد من صخب هذه التهديدات لأن مستشارة ترامب "كيليان كونواي" Killian Conway عادت وكررت هذا الوعد بعد فوز ترامب وتحديدا في النصف الأول من شهر كانون أول/ ديسمبر من العام الراحل 2016م وأن هذا النقل هو على رأس سلم الأولويات بالنسبة للرئيس ترامب!
هل الأمر مستبعد تماما والحديث يدور عن مجرد وعود وتهديدات لن تتحقق مهما بلغ الضغط من اللوبي اليهودي في أمريكا؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا نتذكر موضوع "جوناثان بولارد" ولمن لا يعرف المذكور أو لمن نسيه أقول باختصار: إن هذا الشخص اعتقل في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1985 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة ولكنه حصل أخيرا على إفراج مشروط ببقائه في الأراضي الأمريكية لمدة خمس سنوات، وأفرج عنه في عهد الرئيس باراك أوباما الثاني أي سنة 2015، ما سبب الاعتقال والحكم؟ التجسس ونقل معلومات حساسة إلى إسرائيل.
طبعا علاقة (إسرائيل) بالولايات المتحدة على قدر ما فيها من حميمية لا تعني سماح الأمريكان للإسرائيليين بالتجسس عليهم، أو العكس، فرفض فكرة التجسس فطري، وحتى الإنسان العادي لا يجب أن يرى أقرب المقربين إليه يراقبه ويتتبعه.. هذا مفهوم، وبقي بولارد في السجن وتعاقب على أمريكا رؤساء، و(إسرائيل) تضغط بشتى الطرق كي يتم إخلاء سبيله، وكان الأمريكان يرفضون، حتى بوش الابن رفض، وقيل بأن مدير السي آي إيه جورج تينت هدد بتقديم استقالته إذا أخلي سبيل بولارد، ولكن في الولاية الثانية للرئيس "أبو حسين أوباما" فتحت أبواب السجن ليصبح جونانثان بولارد خارجه.
المضحك أن موضوع بولارد ظل عند بعض المنظرين المتأمركين، أو الراغبين في التأمرك، أو المخدوعين الذين صدقوا أن لدى العم سام شيئا من الإنصاف والعدل؛ ظل هذا الموضوع مادة تستخدم لإثبات براءة أمريكا من دعم (إسرائيل) بالمطلق، على كل حال أوباما أطلق سراح بولارد وزود "تساهال" بطائرات الشبح، وبمبالغ مالية طائلة.. جاب من الآخر بالتعبير الشعبي المصري.
أما من هم قبله من الرؤساء فإنهم أبقوا على الجاسوس بولارد في السجن، و قدموا للصهاينة دعما سخيا بالسلاح والمال والإسناد السياسي والإعلامي، بل خوض حروب ونزاعات من أجل أن ينعموا بالراحة في أرض مغتصبة من أهلها. أي أن وجود بولارد في السجن 30 سنة كاملة لا يعني أن العدل والنزاهة تجد لها عند الأمريكان فيما يخص الصهاينة سبيلا أو طريقا، وأيضا -وبكل تأكيد- فإن عدم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس طوال هذه السنين يصب في ذات المصب للسياسة الأمريكية الجائرة العدوانية المساندة لهذا الورم السرطاني (إسرائيل).
بالنسبة لي فإن كل فلسطين محتلة وتل أبيب المزعومة مثلها مثل حيفا وعسقلان ومدن الجليل محتلة مغتصبة.. أما موضوع نـقل السفارة فهو طبعا يمثل تتويج وخاتمة التماهي الأمريكي مع المشروع الصهيوني، واحتمال نقل السفارة وارد، وردة الفعل يراهن نتنياهو وترامب على أنها ستبدأ كرة كبيرة تصغر تدريجيا، وسيكون طابعها التنديد والاستنكار والشجب، ثم ينتهي الأمر وتتبع دول أخرى خطى الأمريكان.. هذا احتمال قائم.
والاحتمال الآخر أن يفتح ترامب للصهاينة كل مجالات الدعم، ويجعل موضوع نقل السفارة فزاعة يهدد بها؛ فمثلا يمكن أن يقول للعرب: طبّعوا علاقاتكم رسميا وعلنيا مع (إسرائيل) وإلا نقلت السفارة.. نعم هذا وارد، ولكن فلسطين والقدس علمتنا أنها تصنع منعطفات التاريخ ومحطاته المفصلية دوما، وتسقط كل الرهانات الخاسرة.