خلال الأسابيع الأخيرة اخترع الفلسطينيون الطائرات الورقية وبدؤوا يطلقونها تجاه المستوطنات، ما أدى إلى حرق آلاف الدونمات من المزروعات والأشجار، وأثار ردود فعل إسرائيلية واسعة وغارات مكثفة على مواقع مختلفة في القطاع، وأطلق قادة الاحتلال التهديد تلو التهديد لغزة بشن بحرب مدمرة.
خلال الأسبوع الماضي لم يتوقف القصف الإسرائيلي على غزة، وكان أشده مساء الجمعة الفائتة، واستمر حتى منتصف الليل تقريبًا، ويقال أوقف بفعل الوساطات والرجوع إلى تفاهمات التهدئة السابقة، مع أن الاحتلال رفض قبل ذلك كل الوساطات، لكنه هذه المرة أجبر رغم أنفه عليها، فهل يحسب هذا انتصارًا للمقاومة رغم الخسارة المادية والضحايا من الشهداء؟
إن قراءة الأرقام والإحصائيات عن الحروب التاريخية في جميع أنحاء العالم تقدم إجابة واضحة عن سقوط منطق تقويم الحروب بناء على أعداد الضحايا والخسائر، ولنا في الحرب العالمية الثانية مثال صارخ على سقوط هذا المنطق، إذ قدمت دول الحلفاء نحو 83% من ضحايا هذه الحرب، وخسرت دول المحور نحو 17% من الضحايا (حسب عدة دراسات)، ومع ذلك خرجت دول الحلفاء منتصرة، لأنها حققت أهدافها السياسية وترجمتها بإجبار ألمانيا على توقيع معاهدة فرساي.
لكن ثمة نقاش ساخن مستمر في معنى الانتصار في الحروب العربية الإسرائيلية، بدأ مع حرب تموز (يوليو) الإسرائيلية على لبنان، وتزايدت حدته مع الحروب العدوانية التي شنها الاحتلال على قطاع غزة في أعوام: 2008-2009م و2012م و٢٠١٤م، ومنذ ذلك الحين لم تشهد غزة عدوانًا مثل هذا العدوان الغاشم، رغم إعلان التوصل إلى وقف إطلاق النار بين فصائل المقاومة والاحتلال.
كل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بلا استثناء قدمت تاريخيًّا العدد الأكبر من الضحايا مقارنة بالمحتلين، لكن لا أحد يستطيع أن يشكك في انتصار هذه الشعوب بعد أن تمكنت من تحقيق أهدافها، إذ إن قدر الشعوب المحتلة _وليس خيارها_ أن تدفع ثمنًا غاليًا من دماء أبنائها ومقدراتهم وبيوتهم للتحرر من المحتلين، وليست فلسطين بدعًا من الشعوب بهذا الخصوص.
وإن قياس الانتصار يجب أن يبنى على مدى نجاح من بدأ الحرب بتحقيق أهدافه (وهو في حالة غزة الاحتلال الإسرائيلي)، ومن المفيد أيضًا استعراض أهداف فصائل المقاومة من الرد على العدوان، كما حددتها المقاومة في أكثر من خطاب وبيان، وهي: توقف العدوان، وإنهاء الحصار، وفتح المعابر، وإنشاء الميناء البحري، والسماح بالصيد حتى مسافة 12 ميلًا، والإفراج عن الأسرى ... إلخ. وليأخذ الاحتلال العبرة من الحرب الأخيرة، التي استمرت واحدًا وخمسين يومًا، واضطر أخيرًا إلى وقف إطلاق النار، يمكن القول إن الاحتلال لم يحقق أيًّا من أهدافه المعلنة وغير المعلنة للحرب، ما عدا الهدوء، فلا قضى على الصواريخ التي استمرت بقصف مواقع في العمق الإسرائيلي حتى اللحظات الأخيرة قبل سريان وقف إطلاق النار، ولا يعرف حتى الآن حجم الأنفاق التي دمرت، وما نسبة الأنفاق التي لا تزال موجودة، ولم ينزع سلاح المقاومة، بل إنه لم يذكر بتاتًا في اتفاق وقف إطلاق النار، وأهم انتصار تحققه غزة في كل معادلة عسكرية هو أنها أنهت المعادلة التي أراد الاحتلال فرضها، وهي "الهدوء مقابل الهدوء"، وفرضت عليه معادلة: "العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم".
وفيما يتعلق بالهدف الإسرائيلي غير المعلن تجاه إنهاء الوحدة والمصالحة الفلسطينية كانت نتيجة العدوان عكسية تمامًا، إذ إن الفلسطينيين جميعًا توحدوا ضد العدوان، في حين خاض المعركة السياسية في القاهرة وفد يمثل الفصائل كافة والسلطة الوطنية، بالرغم من كل الخلافات الجذرية بين أطراف هذا الوفد.
لقد لقنت غزة الاحتلال درسًا صعبًا، ولا تزال تلقنه الدرس تلو الدرس، وفرضت عليه قواعد فض الاشتباك، رغم بساطة الإمكانات لديها وضخامتها عند الاحتلال، وإذا ما أولينا دراسة تاريخ الحروب بين الدول بعض الوقت لوضع تعريف واقعي مختصر لمعنى الانتصار؛ فإن الأهم في حالتنا هو دراسة التجربة التاريخية لحركات المقاومة والشعوب الواقعة تحت الاحتلال في صراعها مع المحتلين، إذ تتفق هذه التجارب كافة في الفارق الكبير في القوة بين الدولة المحتلة وحركات المقاومة من جهة، وفي الفارق الكبير أيضًا في عدد الضحايا بين دولة الاحتلال والشعب الذي يقاوم لاسترداد حريته من محتليه.