فلسطين أون لاين

​أبناؤه "الخمسة" أصبحوا أيتامًا

الصحفية مريم أبو دقة.. قراءة اسم شهيد لا تعرفه ليس كما شقيقها!

...
الصحفية مريم أبو دقة
خان يونس - يحيى اليعقوبي

صعبة هي اللحظات التي تجبر شخصا يعمل صحفيا أن يقرأ اسم شهيد قضى إثر اعتداء إسرائيلي ليتفاجأ أنه شقيقه.. هذا ما حدث مع الصحفية مريم أبو دقة يوم الجمعة 20 يوليو/ تموز 2018.

على الحدود الشرقية لخان يونس جنوب قطاع غزة.. جنود الاحتلال يختبئون في ثكناتهم ينظرون إلى الآلاف من الجماهير المشاركة في مسيرة العودة السلمية من فوق التلال الرملية أو نظارات سوداء لا تظهر سوى رؤوسهم، الجموع تندفع نحو الشرق أكثر كأن الرياح تدفعهم أو حلم عودتهم؛ خرجوا من بين الدخان الأسود المتصاعد في السماء واقتربوا من السياج الفاصل، بدأ الجنود بإطلاق النار على المشاركين وقنابل الغاز.

في هذه اللحظات استهدفت مدفعية الاحتلال مرصدا للمقاومة على مقربة من مكان المتظاهرين، كانت مريم أبو دقة وهي صحفية تغطي أحداث يوم الجمعة هناك، اتصلت بزميلها الذي يعمل بموقع "دنيا الوطن" تخبره أن هناك استهدافا لمرصد المقاومة ووجود اصابات، فتحركت بسرعة نحو المرصد إلى الخلف بعد أن كانت تلتقط الصور للمتظاهرين.

ثلاث دقائق .. قبل الصدمة

اقتربت مريم من مكان المرصد ومر من امامها أشلاء شهيدين رأتهم أمام أعينها، لكنها لم تدرك أن من بينهم شقيقها "محمد"، اتصل بها زميلها مرة أخرى بذات الموقع يستفسر عن اسماء الشهداء ردت عليه "3 دقائق وأحصل على أسماء الشهداء".

"الله يعين أهله" قالتها وهي ترى أشلاء أحد الشهداء يمر من أمامها خلال نقله بواسطة "شيالة" إلى الإسعاف، وهي لا تعلم أنه شقيقها الذي كان سندا لها، لم تعلم انه شقيقها الذي كان يمازحها كل جمعة "لا تقدمي كتير عشان ما يطخوك براسك"، لكنه في جمعة استشهاده اكتفى قائلا دون مزاح "ديري بالك على حالك".

"أخوك الشهيد"

وعلى الفور، ذهبت مريم إلى زميلتها التي سبقتها للمكان لتحصل على أسماء الشهداء، وإذا بشقيقها الآخر الذي بجانبها يقول لها "أخوك الشهيد"، وبمجرد ما سمعت باسم شقيقها، تركت مريم جميع أغراضها وكاميرتها وتسمرت بصدمتها، فقراءة اسم شهيد لا تعرفه ليس كما تقرأ اسم شقيقك، لحظات صعبة، قاسية، موقف مؤلم، لا يعرف احساسه إلا من اكتوى بناره.

انخرطت في بكاء صامت تمسح دموعها وقالت: "كل جمعة أنقل أخبار شهداء وإصابات لم أتوقع أن أنقل خبر استشهاد شقيقي في يوم من الأيام".

لم تدر مريم ماذا تفعل أتذهب لجمع ما تبقى من أشلاء شقيقها، أم تذهب لمستشفى الأوروبي بمحافظة خان يونس، وما هي لحظات حتى وجدت نفسها بالمشفى، تهرب دمعة تلو الأخرى على خدها وهي تستعيد ذلك المشهد "اليوم عشت شعور أم وأخ وزوجة الشهيد، يا وجع قلبي".

مريم التي تبكي طوال الوقت منذ لحظة استشهاد شقيقها، حبست دموعها بعد أن جلست أمام والدها الذي لم يتمالك نفسه والدموع تبلل وجنتيه حزنا على فراق ابن غال وهي تخفف عنه "الرجال ما بيبكوا يا بابا.. محمد شهيد يا بابا"، وهو يمسح الدموع لكنها تعاود الهرب مرة أخرى وتنساب على خده الحزين وكأنها ترسم بخيوطها التي لا لون لها لوحة من فراق مخضبة بالدماء.

من يجيب أبناءه؟

لم تتخيل مريم أن شقيقها الذي عاش 15 عاماً من الحب والزواج والحياة الأسرية السعيدة، رزق خلالها بأبنائه الخمسة وهم "أحمد 10 سنوات، ولانا 11 سنةً، وسيف 8 سنوات، وزيد 6 سنوات، ونور وهي تبلغ من العمر سنة ونصف، أن يتم استهدافه وخطف روحه بلحظة بقذائف الاحتلال، وأن يغادرهم ويرحل دون وداع وبلا استئذان.

في مراسم العزاء بدا الطفلان أحمد ولانا صامتين لا يتحدثان مع أحد، يلتفتان بنظراتهما في أرجاء بيت العزاء دون أن يصدقا أن والدهما قد رحل هذه المرة إلى غير رجعة، رحل ولن يقبلهما بعد اليوم، ولن يصطحبهما في رحلات ترفيهية، تفيض عيونهم بما فيها من ألم وتكسبه مع الدموع، ألم لا تمحوه الأيام، ولا تغيره السنين، يبقى ملازما لهم فقد أصبحوا "أيتاما" بقرار من جيش الاحتلال.

ستبقى ابنته نور تنظر في أرجاء المنزل تبحث عن والدها ولن ترى سوى صورته، تجيب سؤال كل طفل قتل الاحتلال والده "أين أنت يا أبي!؟"، كيف ستجيبهم والدتهم التي كانت دائما تخشى هذه اللحظة وهي تعرف ربما أنها حتمية لأن زوجها دائما كان يقول لها "توقعي بأي يوم تتلقي خبر استشهادي".

وبهذا نسدل الستار، عن قصة محمد رياض أبو فرحانة "أبو دقة" 32 عاماً، الذي عمل تاجرا في أدوات المكاتب "القرطاسية"، ولم يبخل على وطنه في مقاومة المحتل، ذهب إلى نقطة الرصد التابعة للمقاومة في زيارة لأصدقائه، ولم يدر أن هناك قذيفة إسرائيلية غادرة ستحولهم إلى أشلاء، ويبقى اسمه ذكرى، ويبقى أولاده وعائلته يكتوون بنار الفراق.