مهما صعد العدو الإسرائيلي من عدوانه على سكان قطاع غزة، فإنه سيصطدم في النهاية بالمجهول، فلا مكاسب سياسية سيحصدها من العدوان، مهما اشتد القصف، ومهما كانت التضحيات، ولا إنجازات عسكرية على أرض الواقع تسمح له بأن يتفاخر أمام شعبه بقوة الردع. لقد أدرك القادة العسكريون الإسرائيليون هذه الحقيقة، وأيقنوا أن زمن الانتصارات السهلة قد عبر، وأن زمن "نمهر حدودنا بوقع أقدام جنودنا" قد ولى، ولم يعد بمقدورهم التوسع والسيطرة على أرض الميدان كما كان، وبات من المؤكد أن المواجهة القادمة لن تغير ما هو قائم الآن، لتعاود الساقية دورانها، تصعيد ثم تهدئة، وتهدئة يعقبها تصعيد، ثم تهدئة من جديد.
وتدرك غزة أنها تواجه أقوى جيوش المنطقة، وتدرك غزة أنها محاصرة، وأنها لا تمتلك من مقومات البقاء والصمود إلا إرادة رجالها، وما تخبئه من إعدادات وتجهيزات يجهل عدوها مداها، ويجهل محتواها، وهذا هو سر غزة، وهذا هو مصدر قوتها، الإنسان الذي يؤمن بحقه في فلسطين حد الشهادة، والاستعداد للتضحية، وما تم ترميمه وتحشيده من عناصر القوة منذ أربع سنوات وحتى هذه اللحظة التي تتصاعد فيها سحب المواجهة في سماء المنطقة.
إنها غزة، المعضلة الحقيقية التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي برمته، وليست الحكومة الإسرائيلية فقط، معضلة لا يجد لها الإسرائيليون علاجاً، فعدد السكان اللاجئين في غزة يذكرهم بقضية الاغتصاب لفلسطين، وطرد الملايين في الشتات، وضيق المساحة التي يعيش فيها 2 مليون إنسان يذكرهم بأن الذي اغتصب أرضهم هم الصهاينة، وسلاح غزة يذكرهم بغد إسرائيل الذي يعيش على حد السيف، ومسيرات العودة تذكرهم بعدم الاستقرار مهما توسعوا في الديار، ومهما أقاموا علاقات حسن جوار، فغزة هي العنوان للمواجهة، وغزة هي بوابة الحرب والسلام.
ولا تثق غزة بمن حولها، ولا تخاف من تهديدات أعدائها، ولا تصدق غزة تصريحات قادة الجيش الإسرائيلي بأنهم قادرون على احتلال غزة، ولكنهم يتأففون من هذا الفعل، لأنهم لا يجدون العنوان المناسب بعد ذلك، فغزة تعرف أن الذي يعجز الجيش الإسرائيلي ليس أخلاقياته، وإنما اضمحلال قدراته، وتعرف المقاومة أن تصريحات المستوى السياسي في إسرائيل عن الانشغال بالجبهة الشمالية ما هي إلا ذر للرماد في عيون المقاومة، فحديث المسؤولين الإسرائيليين لايطمئن له عاقل، ولا يبعث على الثقة بتصريحات عدو يظهر عكس ما يخفي.
وأزعم أن التفكير الإسرائيلي يقوم على حسم جبهة غزة وتسكينها بأي شكل كان قبل أي تصعيد على جبهة الشمال، العدو يحرص على تأمين ظهره، وإغلاق الأبواب المفتوحة على كل احتمال، لذلك فمن المرجح أن يتعجل العدو في الدخول في مواجهة مدروسة مع غزة، تسفر عن تسكين هذه الجبهة، كمقدمة لأي عدوان إسرائيلي على الشمال، وهذا يخالف كل ما يرد في الإعلام الإسرائيلي، ويخالف كل ما يصدر عن قادة الكيان من تصريحات إعلامية.
لقد دللت تجربة المواجهات مع الاحتلال أن الإسرائيليين يتوجعون من الأحداث الداخلية في غزة والضفة الغربية والقدس أضعافا مضاعفة لتوجعهم من الجبهات الأخرى، وذلك لحساسية المواجهة، ولانعكاسها المباشر على الأمن الإسرائيلي، والاستقرار المجتمعي، لذلك فإن نوايا الإسرائيليين في عدوان مبيت على غزة قد تكون أسبق من التفكير في اعتداء على أي مكان آخر من بلاد العرب، وهذا ما يستوجب الحذر والانتباه، وهذا ما يعكسه التصعيد الإسرائيلي الحالي، الذي يفضح نوايا العدو الذي لم يغير عقيدته القتالية، والقائمة على المبادرة والمباغتة والسرعة، وهذا ما تشير إليه التطورات الأخيرة، من تصعيد وقصف واعتداء، يعود بنا إلى تموز 2014، والبدايات نفسها من تصعيد، ورد على التصعيد، وكأن الطريق الوحيدة هي المواجهة الشاملة.
وإذا كانت الحرب قد فرضت على غزة وهي كره لها، وإذا كان تفادي المواجهة لم يعد قائماً،فإن مبادرة المقاومة ومفاجأة العدو قد تكون أكثر جدوى من الانتظار، إلا إذا تراجع العدو عن التصعيد، واستمع إلى لغة العقل، وأدرك أن مصالحه مع التهدئة، وسعى صادقاً لفك حصار غزة، واللجوء إلى تهدئة طويلة الأمد، يرتاح لها سكان قطاع غزة، وتخفف معاناتهم، وهذا ما سيتكشف في الساعات والأيام القادمة.