كل الحروب الطاحنة والمواجهات التي جرت على وجه الأرض بدأت بعود ثقاب، شعلة صغيرة، تمتد، وتتصاعد، وتكبر حتى تصير حرباً، قد تتواصل لشهور، وقد تمتد لقرون، وهذا الأمر ينطبق على الحالة السائدة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والعدو الإسرائيلي؛ الذي فقد أعصابه جراء مسيرات العودة، وخانته قدراته في مواجهة بالونات العودة، وعجز عن لجم صواريخ المقاومة، وتحول من حالة الهجوم الآمن إلى الدفاع المرتبك، الذي كشف عن أسس دولة لا تعيش إلا في ظلال سيف الأمن، الذي تهشم في محيط غزة، فتكسرت قوة الردع.
إن تشديد الحكومة الإسرائيلية للحصار على غزة هو إقرار رسمي بالفشل في مواجهة حراك غزة، وتأكيد على أن الإسرائيليين يعيشون ضائقة أمنية، وهم في حالة من الإرباك والتخبط السياسي الذي أثار غضب المجتمع الدولي، فجاءت تصريحات ميلادينوف ممثل الأمم المتحدة في المنطقة، بمثابة باكورة نقد للإجراءات الإسرائيلية التي تقود إلى التصعيد.
إغلاق معابر غزة رغم قسوته لم يرعب أهل غزة، ولم يردع الشعب الباحث عن الحرية، فقد أعلنت وحدة أبناء الشهيد محمد الزواري عن تصعيد مواجهتها، وزيادة عدد البالونات الحارقة المرسلة إلى المستوطنات اليهودية، وأعلنت وزارة الزراعة في غزة عن وقف إدخال الفواكه الإسرائيلية إلى الأسواق الفلسطينية في غزة، في خطوة تصعيدية تؤكد أن من خلف كل ذلك التحدي توجد مقاومة فلسطينية جاهزة للرد على كل فعل عدواني إسرائيلي؛ حتى ولو وصل الأمر إلى حد المواجهة الشاملة، وكسر حالة الهدوء السائدة من سنوات.
غزة تصر على مواصلة مشوار التحدي الذي بدأته بمسيرات العودة، وهي تقول للجميع: إنما للصبر حدود، والغريق لا يخشى من البلل، والجائع سيفتش عن رغيف الخبز حتى ولو في سحب الدخان المتصاعد من القذائف الصاروخية، والذي تعود على حياة الكرامة لن يقبل المذلة، والذي استعذب المواجهة لن يغفو وينام على صمت البندقية، بينما عدوه ينام على بساط الأمن.
وإذا كان تشديد الحصار الإسرائيلي على غزة يثير غضب الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم، فإن الذي يغضب الفلسطينيين أكثر هو الصمت الفلسطيني الرسمي على هذا الحصار الإسرائيلي المجرم، فحتى الآن، لم تشجب السلطة الفلسطينية إغلاق معابر غزة، ولم تغضب الحكومة الفلسطينية، ولم تعترض الرئاسة، وكأن الذي يحاصر غزة صاحب حق في تمزيق جسد الضحية، وكأن أهل غزة عصاة طغاة يتوجب أن يعاقبوا بالحصار الإسرائيلي، أو كأن أهل غزة لا ينتمون للشعب الفلسطيني، وكأن غزة هي جزر المالديف، ولا علاقة لسكانها بلغة العرب، ولا بتاريخ العرب، ولا بدينهم وعاداتهم، ولا رابط بين أهل غزة والأمة العربية التي انتظرت أن تطالب السلطة الفلسطينية بعقد جلسة طارئة لوزراء الخارجية العرب، أو أن تبادر جامعة الدول العربية فتدعو إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن، أو جلسة عادية في الأمم المتحدة لاتخاذ موقف ضد محتل يتجاوز القوانين الدولية، لقد صمت الجميع، وكأن من حق (إسرائيل) أن تعذب غزة وأن تذبح أهلها كما يحلو لها، وكأن غزة شأن إسرائيلي داخلي، لا يسمح للعرب الغرباء بالتدخل فيه!.
وحتى يومنا هذا، لم يرَ أهل غزة خبزاً، وهم الذين يسمعون طحناً إعلامياً، ويتابعون تصريحات المسؤولين، ولقاءات الزائرين لغزة، وتهديدات الأعداء المتتالية، وتصريحات قادة السلطة الفلسطينية الذين هددوا بمزيد من العقوبات الانتقامية، وهذا كله يدفع أهل غزة للتمسك بمواقفهم الوطنية الثابتة والصلبة، وهذا كله يحرضهم على مزيد من التمرد، وعلى الاستعداد لمواجهةٍ أصعب وأشد، فغزة لن تعاني وحدها، ولن تصبر على ضيم القريب المتناغم مع إرهاب البعيد.