من الصعب فهم القرار الإسرائيلي المفاجئ بإغلاق معبر كرم أبو سالم وتقليل مساحة الصيد، دون الاطلاع على كامل المشهد الحاصل في قطاع غزة، في ظل استمرار مسيرات العودة، وما تشكله من استنزاف للجبهة الإسرائيلية الداخلية، لا سيما في مستوطنات غلاف غزة، رغم ما تستخدمه من أساليب متواضعة من المقاومة السلمية، ممثلة بصفة خاصة في الطائرات الورقية الحارقة.
يتزامن القرار الإسرائيلي بعودة لافتة في الآونة الأخيرة للحديث عن فوضى أمنية في غزة بتشديد الخناق أكثر على الفلسطينيين فيها، في المجالات المعيشية والاقتصادية، فوق الخنق الحاصل أصلا منذ أكثر من اثني عشر عاما، وزاد عقب قرارات السلطة الفلسطينية بفرض المزيد من العقوبات، لإجبار حماس على تسليم غزة لبيت الطاعة.
يفاضل الإسرائيليون في خياراتهم تجاه غزة: بين مكلف وأقل كلفة، ويتداولون جملة منها، أخفها بقاء الوضع على ما هو عليه انطلاقا من سياسة إدارة الأزمة، وليس حلها، وأثقلها الذهاب لمواجهة عسكرية ضارية ستأخذ إسرائيل من الصداع المزمن في غزة، حيث تستعين عليه ببعض المسكنات المؤقتة، إلى الورم السرطاني الذي ليس له علاج إلا الاستئصال، الذي يعترضه الكثير من العقبات والعراقيل.
لكن الخيار الذي كان يطرح من طرف خفي يتمثل بإحداث ما تسميه دوائر صنع القرار الإسرائيلي ثورة داخلية للإطاحة بحماس بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، دون أن يكلفهم ذلك رصاصة واحدة، فضلا عن خوضهم مواجهات دامية ضارية، لا تضمن عواقبها بصورة محكمة.
خيار الثورة الداخلية في غزة لا تنفرد فيه إسرائيل وحدها فقط، بل إن السلطة الفلسطينية تعلن ذلك بين حين وآخر، تصريحاً وليس تلميحاً، بأن الهدف النهائي من فرض العقوبات على غزة إجبار الفلسطينيين على إعلان الاحتجاج على بقاء حماس مسيطرة عليها، وما يتخلله من أعمال وسلوكيات ميدانية، تجعل حماس تجري تحويلاً في معركتها الأساسية مع الاحتلال في الخارج، إلى إجراء تقديم وتأخير في أجندتها السياسية، والانتباه لمعالجة التوترات الأمنية التي قد تنشأ في الداخل، مما يستتبع بالضرورة تدخلات من هنا وهناك لاستكمال سيناريو الفوضى.
أخيراً.. يقرأ الإسرائيليون سلسلة إجراءاتهم الظالمة ضد غزة منذ 2006، وكأنهم اليوم يحاولون القفز عنها، أو على الأقل دمجها مع خيار الفلتان الأمني والضغط الداخلي في غزة، لاعتقادهم أن الفلسطينيين وصلوا مستويات غير مسبوقة من العوز والحاجة، التي تجعلهم يخرجون في هذا الخيار العدمي، لأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه.
هذا هو الرهان القادم، مما يتطلب من صانع القرار في غزة العمل على تفويته بالحذر الأمني من جانب، ومتابعة شئون المواطنين أكثر من جانب آخر، وإبداء قدر أكبر في قضاء حوائجهم من جانب ثالث...