في مثل هذه الأيام من عام 2014، كان قطاع غزة تحت وقع صواريخ الطائرات وقذائف المدفعية، فيما كشفت يوميات عدوان "الجرف الصامد" بين 7-7/26-8/2014، أنه لم يعد هناك مكان أو مدينة أو شارع في دولة الاحتلال آمن، ففي الوقت الذي تقلَّصت فيه "سلَّة الأهداف الإسرائيلية" للانتقام من الفلسطينيين في غزة، بقيت "سلَّة أهداف المقاومة" عديدة ومتصاعدة.
وساهمت الإنجازات التي راكمتها المقاومة خلال حرب غزة، في رسوخ القناعة الآخذة في التجذُّر على المستوى الشعبي وأوساط النخب الفلسطينية، وحتى بعض المستويات الرسمية بعدم جدوى العملية السياسية الجارية مع الإسرائيليين، وعدم قدرتها على تحقيق ما اصطلح على تسميته "الحدود الدنيا للحقوق الفلسطينية".
وتكرَّرت في الوقت ذاته مطالب للفصائل وقطاعات شعبية فلسطينية بضرورة تقليل الخسائر الكبيرة مقابل إيقاع خسائر أكبر في صفوف العدو الإسرائيلي؛ لتعديل ميزان المواجهات في ظل التصعيد العسكري الحاد من قبل الجيش في مواجهة المقاومة، بشكل لم يسبق له مثيل، مستعينًا بوسائل عسكرية تستخدم في الحروب النظامية أمام جيوش كبيرة.
وبعد انقضاء حرب غزة، وما صاحبها من مقاومة متدرجة، ومرور هذه السنوات الأربع عليها، فقد استفاد الفلسطينيون دروساً عديدة، أهمها أن مقاومة غزة في الحرب الأخيرة قاتلت في مواقع لا يستطيع جنود الاحتلال التوغل فيها، فهذه الحقيقة لا تقل أهمية؛ لكونها تتعلق بالموقف والخيارات العسكرية الإسرائيلية، وتتجسد هذه الحقيقة في أن العدو لم يَعُد قادرًا على دخول المناطق التي خرج منها؛ لأن من شأن ذلك أن يزجّ بجنوده في دوائر النيران في الناحية القتالية المباشرة، وعلى المدى البعيد يعرض قواته لخسائر فادحة طالما حلم بالتخلص منها.
كما أفرزت حرب غزة تطورًا خطيرًا كان له أثره الجوهري على مستقبل المواجهة على الأراضي الفلسطينية، لتكريس نوع آخر من شكل "خط المواجهة أو النيران"، مما أعطى إمكانية لشكل أوسع من الاشتباك المنظم وحرب المجموعات الصغيرة ضد خطوط العدو التي باتت محدودة من حيث الحجم والامتداد.
وهناك ميزة أخرى خدمت تطور المقاومة في غزة قتاليًّا في الحرب الأخيرة، وفرها قطاع شاسع من المناطق الحدودية الحرجية والكروم الزراعية، حيث تمكنت المقاومة من استنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي، وشكلت مناطق صالحة لتحرك المجموعات المقاتلة المتسلِّلة أو المنظمة.
كما كشفت حرب غزة عن أساليب هجومية جديدة وخطيرة ضد أهداف إسرائيلية منتخبة؛ اعتبرها الإسرائيليون تصعيدًا وتطورًا خطيرين، دفعتهم للقول: إن الحرب التي أدارها الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن ضد الحركات الفلسطينية المسلحة هي حرب أدمغة وابتكارات وأساليب جديدة.
لقد خاض الجانبان، المقاومة وجيش الاحتلال، لعبة قاسية "عض الأصابع"، كانت نتيجتها واضحة، ميدانية وليست نظرية، تمثلت بإعلان الإسرائيلي بأعلى صوته لكلمة "آخ" وجعاً وألماً من مقاومة ضارية، رغم ما تحمّله الفلسطينيون من أثمان عزيزة باهظة لم تفت في عضد المقاومين على ثغور الرباط.